تعيش القاهرة منذ سنوات وسط الحسابات المعقدة لمنطقة الشرق الأوسط، وتواجه بحكمة وهدوء مخطط التحالف الصهيوامريكي ومنظريه، والذين أكدوا أن أهدافهم لن تتحقق طالما بقيت مصر قوية، لذا يعملون بكل الوسائل من أجل أضعاف أرض الكنانة وحصارها إقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وزعزعة استقرارها وخلق الأزمات الداخلية تمهيداً للانقضاض عليها فيما أسموه بـ« الجائزة الكبرى».. وهو ما يدركه شعبنا لحد بعيد.
صانع القرار في القاهرة وبخبرة العقود الطويلة يتحرك وسط هذه الاعاصير على اصعدة مختلفة، ويدرك أنه أحياناً يكون التراجع للوراء خطوات حتى لو أغضب بعض الجماهير ليس هزيمة وليس تنازلاً عن حقوق لا تسقط بالتقادم، وأن القاهرة لا تنسى ثأرها أبداً، ولا تترك حقها مهما كلفها الأمر، لكن تكتيكات الحروب فيها الكر والفر، التراجع خطوة لكسب خطوات، دخول الحرب في المكان والزمان الذي نريده، وليس الذي يريده العدو، نستخدم الدبلوماسية عندما يكون القتال فخ، ونستخدم القوة الصلبة عندما يتوهم البعض أن صبرنا ضعف.. لذا صانع القرار يتحرك وفق حسابات شديدة التعقيد.. حسابات مبنيه على معلومات وليس تخمينات.. تحركات استراتيجية وليست حركات عشوائية.. وإذا كان المعارض يقوي موقف المفاوض، فصانع القرار يحتاج دعم وثقة الجميع خاصة في وقت الحرب.
خلال السنوات الأخيرة قبلت إثيوبيا أن تكون أحد أدوات الحلف الصهيوامريكي في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، من أجل زعزعة استقرار دول المنطقة وفي مقدمتها مصر إلى جانب السودان والصومال، وأن تكون جزء في مخطط حصار القاهرة من خلال صناعة أزمة سد النهضة ومحاولة تعطيش الشعب المصري أو إجباره على توصيل مياه نهر النيل إلى إسرائيل تحقيقاً للنص التلمودي: «لن يعود المسيح المخلص حتى تصل مياه النهر المقدس إلى أورشليم» .. لذا سعت أديس أبابا بكل قوة خلال 14 عاماً من المفاوضات الوهمية والاستفزازات إلى جر القاهرة لدخول حرب معها، لتنفيذ مخطط دولي هدفه فرض عقوبات اقتصادية على مصر وعزلها دولياً وربما ضربها عسكرياً بحجة الاعتداء على دولة ذات سيادة، وهو ما أدركته القاهرة مبكراً، ورغم الغضب الشعبي في الداخل بسبب أزمة سد النهضة والتهديدات الإثيوبية المتكررة، إلا أن صانع القرار فوت الفرصة على أصحاب ذلك المخطط، متعمداً على معلومات استخباراتية وخطة عسكرية وسياسية متكالمة تضمن حقوق مصر المائية التي لن تمس، وسيناريوهات بدلية للتعامل مع هذا التهديد على كافة المستويات ورغم كل الصبر، جاء وجود القوات المصرية في الصومال ليؤكد مجدداً: «القاهرة مازلت تضع يدها على الزناد.. ولن تسمح لأحد بأن يهدد أمنها القومي وهي التي تحدد مكان وزمان المعركة»…
عندما فشلت إثيوبيا ومن وراءها في سيناريو: «جر القاهرة للحرب بسبب سد النهضة»، بدأت التفكير في الخطة البديلة وهنا كان تعاونها – المخالف للقوانين والأعراف الدولية – مع جماعة انفصالية في أرض الصومال بهدف الوصول إلى سواحل البحر الأحمر وتهديد الملاحة في باب المندب وقناة السويس، بل بدأت تهدد الصومال عسكرياً، مستغلة تواجد قواتها ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي هناك، بهدف فرض الأمر الواقع على الدولة العربية الشقيقة التي مازالت تتعافى بعد سنوات من الحروب الأهلية، وهو ما دفع مقديشو لوصف التحرك الأثيوبي بالاعتداء على سيادتها، والاستنجاد بالقاهرة، وكانت رسائل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي واضحة أثناء المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع نظيره الصومالي حسن شيخ محمود في يناير الماضي: «مصر لن تسمح بأي تهديد للصومال وأمنه، وترفض التدخل في شؤونه والمساس بسيادته، والاتفاق بين أرض الصومال وإثيوبيا غير مقبول لأحد، والصومال دولة عربية ولها حقوق طبقا لميثاق الجامعة العربية في الدفاع المشترك وأن مصر لن تسمح بتهديد الأشقاء فيها، ومحدش يجرب مصر».
ويبدو أن إثيوبيا لم تعي تلك الرسائل ولم تفهم أن مصر تملك القدرة على الفعل، وأن الصبر لن يدوم طويلاً لذا جاء وجود القوات المصرية في الصومال من خلال المشاركة في بعثة الدعم التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال (AUSSOM)، تحرك جيد على رقعة الشطرنج الإقليمية، ورسالة واضحة من القاهرة إلى إثيوبيا ومن يقف ورائها من أعضاء الحلف الصهيوامريكي، ولمن يفكر في العبث بأمن مصر القومي: «تظنون أن اللعبة انتهت.. ونقول لكم: اللعبة بدأت» فنقل 10 آلاف من القوات المصرية ومعدات عسكرية ثقيلة ومتنوعة، ونقلهم بجسر طيران من مصر إلى الصومال رسالة عن قدرات القوات المسلحة المصرية .. رسالة ستكون محط دراسة وتحليل من جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين، كما أن الانزعاج الاثيوبي من تحركات مصر لن يكون الأخير، واديس أبابا سوف تدفع ثمن تأمرها على القاهرة .. الحسابات لا تسقط بالتقادم..
…والمؤكد أن خطوة مصر الاستراتيجية جعلت القاهرة تعود للتحكم في مربع الحركة في منطقة حوض النيل والقرن الإفريقي.. ولمن لا يعرف التاريخ فإن حرص مصر على وحدة واستقلال الصومال مبكر ومبكر جداً.. في 16 أبريل 1957 تم اغتيال السفير المصري محمد كمال الدين صلاح في العاصمة الصومالية مقديشو، بسبب غضب إيطاليا والمجموعات المرتبطة بها من جهوده الداعمة لاستقلال الصومال كدولة موحدة حيث كان عضواً في مجلس الوصاية الذي عينته الأمم المتحدة لإدارة الفترة الانتقالية في ذلك البلد العربي الشقيق وكان يضم في عضويته «مصر وكولومبيا والفلبين».. بينما من اغتالوه كانوا يريدون أن تكون الصومال دولة فيدرالية مقسمة إلى عدة أقاليم متنازعة، وهو ما تحقق في تسعينيات القرن الماضي بسبب التدخلات الدولية.. ومع عودة التدريجية لقوة الحكومة المركزية في مقديشو فإن القاهرة تدعم سبل وحدة واستقلال الصومال في مواجهة الأطماع الخارجية، لذا مهمة القوات المصرية هي إعادة تدريب وتنظيم الجيش الصومالي لرفع كفاءته ليواجه الإرهاب وحركات الانفصال، ومساعدته في الحفاظ على أمن مضيق باب المندب.
عزيزي القارئ.. القلق الذي أصاب إثيوبيا ومن خلفها.. جاء لعدة اعتبارات في مقدمتها السؤال الصعب: كيف نجحت القاهرة في نقل كتائب «10 آلاف عسكري» بكامل تسليحها الثقيل على مسافة أكثر من 4500 كم من حدودها.. وتوفير الإمداد والتموين بكامل بنوده «اعاشة- وقود- اطقم صيانة للمعدات والحملة – اتصالات – مخزون ذخيرة متنوع يكفى الاشتباكات اسبوع على الاقل حتى وصول الإمداد» .. فقد فؤجي الجميع بنجاح مصر في نقل جيش صغير بتسليح ثقيل في الفناء الخلفي لإثيوبيا – داخل الكمين كمين – بخلاف تحريك قطع من أسطول الجنوب لتأمين موانئ الصومال وتأمين ظهر قواتنا .. في رسالة قوية عن إمكانات مصر العسكرية.. ورسالة اقوى إلى رئيس وزراء إثيوبيا ومن خلفه بأن زمن التصريحات الدبلوماسية قد انتهى والقادم أما تراجع ورضوخ لحقوق القاهرة وعدم الاعتداء على الدول المجاورة أو صدام مسلح لن تقوى عليه أديس أبابا التي تعاني من نزاعات داخلية وخلافات عميقة مع جيرانها في السودان وارتريا والصومال.
مصر بهذا التحرك تقطع اليد الثانية لإثيوبيا التي كانت تريد خلق دولة جديدة على البحر الأحمر «ارض الصومال» مقابل الحصول على ميناء بحري ثم تهديد الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس .. لذا وجود القوات المسلحة المصرية في الصومال تسبب في رعب إثيوبيا، وعبرت عن قلقها من التواجد المصري وادعت أنه يزعزع الاستقرار في المنطقة، رغم أن أديس أبابا هي من تقود جهود إشعال القرن الأفريقي ودول حوض النيل لصالح التحالف الصهيوامريكي، وتتبقى اليد الأولى المتمثلة في سد النهضة والتي سيتم قطعها قريباً سواء بانهيار السد أو السيطرة عليه وإدارته لوجود وثائق تثبت أنه مقام على ارض ملك مصر.
أخيراً.. وصول القوات المصرية في خطوة غير مسبوقة منذ 4 عقود، والرقم 1292 الذي ظهر بوضوح على أحد الطائرات المصرية لم يكن صدفه لمن يفهم ويعي علم الارقام.. 2+9+2+1=14=4+1= 5 وهو الرقم الذي يرمز للقوة والسيطرة والبطش، وفي الدين يرمز إلى إنتصار الإيمان على الكفر، والخير على الشر، كما أن الرقم يشير إلى شهر 12 عام 1992 والذي شهد نهاية جمهورية إثيوبيا الشعيبة ثم إعلان استقلال دولة إريتريا، لذا على أديس أبابا إدراك أن هناك قوة تملك القدرة على البطش بمن يحاول زعزعة استقرار الصومال أو تهديد وحدته، وأن الأمر قد يكلف إثيوبيا نفسها ثمن باهظ جديد على غرار ما حدث عند استقلال إريتريا…