مقالات ورأى

هدف في الوقت المستقطع.. هكذا هشمت صورة “إسرائيل” وأمنها

“إسرائيل” فقدت جزءاً من الردع عقب عملية “طوفان الأقصى”، وساهم الرد الإيراني في تهشيم هذا الردع أكثر من ذي قبل، وهذا يعدّ أيضاً من الأهداف التي حققتها طهران.

نعم، لقد تباينت القراءات والتحليلات لهذا الفعل الجريء والاستراتيجي الذي يفتح طوراً جديداً من الصراع مع العدو الإسرائيلي،

ويطوي صفحة من عمر الصراع؛ ليسجّل تاريخ 14 نيسان/أبريل 2024 محطةً رئيسيةً من المواجهة بين محور الممانعة والكيان الإسرائيلي وداعميه. 

ولا ضير في القول إنّ هناك من لديه قصر نظر إذا لم يتطلع إلى الحدث على أنه تطور لافت ومتقدم واستراتيجي يصعب معه تقدير أيّ صورة سيكون عليها المشهد في المنطقة،

وكيف ستكون التحولات الاستراتيجية والجيوسياسية فيها، وهذا ما يدفعنا إلى قراءة هذه المفاعيل الاستراتيجية للرد الإيراني وتأثيراتها في الكيان الإسرائيلي والمشهد الإقليمي.

عادةً ما يتم الانطلاق في قراءة المشهد بالحديث عن الجزئيات للوصول إلى المتغيرات الكلية التي يمكن أن تحصل في السياسة الإقليمية والدولية، لكن على غير العادة

بات ممكناً الحديث عن المتغيرات التي يمكن أن نشهدها في مجمل المشهد الإقليمي والدولي قبل الوصول إلى ما حققته إيران على مستوى الصراع المباشر مع الكيان الإسرائيلي،

وكذلك التداعيات التي حصلت في الكيان بعد ذلك.

إنّ تأثيرات معركة “طوفان الأقصى” والحرب التي تُشنّ على قطاع غزة، بدأت بالانعكاس بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ على العلاقات الدولية

القائمة في نظامٍ دوليٍّ هشّ، يتأثر بالأحداث الحاصلة في مشهد السياسة الدولية والإقليمية

التي تزيد من ترنّحه باستمرار. هذه التأثيرات أصبحت أيضاً أكثر وضوحاً عقب ليلة 14 نيسان/أبريل، بعد أن تخلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن الصبر الاستراتيجي؛

لتبدأ بالردّ الاستراتيجي على التصلّف الإسرائيلي في إدارة الحرب الدائرة في غزة وانعكاساتها على المنطقة. لذلك، لا بدّ من فهم البيئة الدولية والإقليمية المحيطة بما يحصل،

لطالما كان الشرق الأوسط مرآةً تعكس موازين القوى العالمية، وخاصةً أنّه قلب العالم، ويبدو أنّ خريطة المنطقة الجيوسياسية لن تبقى كما هي، في ظل ترهّل المشروع الأميركي،

وضرب بنيان وأساسات قوة الردع الإسرائيلية، وتطوّر محور المقاومة الذي يحمل شعار مستقبل فلسطين، مع ما يؤشر ذلك إلى تحوّلات ستحصل في الخريطة الجيوسياسية للمنطقة.

بعدما أظهرت إيران القدرة والإرادة على المواجهة، وهو ما فاجأ الغرب عموماً، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية، كما فاجأ الشرق وفي مقدمته الكيان الإسرائيلي،

ناهيك بأن الدول العربية المحيطة بدأت تنظر إلى إيران بعينٍ مختلفةٍ، ما يستدعي تصفير الصراعات والذهاب نحو تحسين العلاقات بدلاً من الاستعداء.

بين ظهراني 14 نيسان/أبريل واحتمالات توسيع رقعة الحرب، ثمّة تأثيرات كبيرة على المصالح الأميركية،

وتهشيمٌ لصورة واشنطن، وبالتالي تأثيرٌ على علاقات الولايات المتحدة بدول المنطقة،

لا سيما حلفائها، بعد أن أدركت واشنطن أن هناك قوى – خصوماً وأعداء – تقدّمت في المنطقة

ولديها القدرة على التأثير والإضرار بالمصالح الأميركية،

وهذا الأمر جدي بالنظر إلى ما قامت به إيران واليمن والمقاومة في لبنان والعراق وسوريا،

وقد أصبح الشرق الأوسط ساحة صراع حقيقية بين واشنطن وطهران، ومن المتوقع أن تتقدم إيران أكثر في المنطقة.

وفق ذلك، يبدو واضحاً أنّ تقييم واشنطن، يتمحور بالنظر إلى استفادة الفاعلين الإقليميين والدوليين

من سيناريوهات توسّع رقعة الحرب. حيث إن للفاعلين الدوليين مصلحةً كبرى في أن تدخل واشنطن في مستنقعٍ جديدٍ يُضعف من قوتها في المنطقة،

ما يقلّل من هيمنتها على النظام الدولي. أمّا الفاعلون الإقليميون وعلى رأسهم إيران فقد بات لهم كلمتهم في المنطقة؛

ولم يعد بالإمكان رسم المسار السياسي والأمني من دون موافقتهم، وإلا فإن المنطقة ستبقى على صفيح ساخن دائماً فيما برودتها ستكون مصطنعة.

هذا إذا ما نظرنا أيضاً إلى إمكانية تحوّل “إسرائيل” من أداة لحماية المصالح الأميركية – الغربية في المنطقة،

إلى عبءٍ عليها. وهذا ما يأخذنا إلى الحديث عن خطورة ما قامت به إيران على الكيان الإسرائيلي

وتالياً على المشروع الأميركي، ما يبيّن المفاعيل الاستراتيجية الهامة للرد الذي حاكته طهران على سجادة الإقليم بمجمله للرد على الاعتداءات الإسرائيلية.

إن المقارنة بين ما حققته إيران وما تكبدته “إسرائيل” على المستوى الاستراتيجي لهذا الحدث يمكن قراءته من خلال الإعلام الإسرائيلي،

إذ يقول الـمـحـلـل الـعـسـكـري ألـون بـن دافـيـد من الـقـنـاة 13 الإسرائيلية إن “إيران قد تجاوزت طبقة استراتيجية،

ونحن لا نفهم مزاجها”، فيما قالت “إسرائيل هيوم” إن “إيران توقفت عن الخوف وهذه بشرى سيئة للأميركيين وحلفائهم في المنطقة،

كما يعد الهجوم الإيراني تذكيراً صارخاً بفقدان الردع الاستراتيجي لإسرائيل والولايات المتحدة”.

وفيما قالت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية “أخفقنا استراتيجياً”، رأت مجلة “مكون ريشون” أن “الايرانيين قلبوا الطاولة وخرقوا قواعد اللعبة”. وبدوره،

قال الون بن كاس في “هآرتس” إن “في واشنطن يلاحظون فقدان قوة الردع الإسرائيلية واستخبارات معيبة وقدرة عسكرية متوسطة وقيادة سياسية عاجزة وغير مؤهلة”

بينما علق معهد “بحوث الأمن القومي” الإسرائيلي بالقول “من الناحية الاستراتيجية، يزداد الوضع تعقيداً، وفشلت إسرائيل والولايات المتحدة في ردع إيران عن الهجوم”.

لم يبتعد الإعلام الغربي في قراءته عمّا قدمته وسائل الإعلام الإسرائيلية، إذ قالت صحيفة “وول ستريت جورنال”

إن الهجوم الإيراني على “إسرائيل” أكبر هجوم في العالم بالطائرات المسيرة،

فيما قال موقع “ميدل إيست آي ” إن “الهجوم الإيراني كشف ضعف إسرائيل وحاجتها إلى الآخرين للدفاع عن نفسها”

وهذا ما أكدته “الأوبزرفر” البريطانية، وهو ما يشبه إلى حد كبير ما ورد في صحف فرنسية وألمانية.

وقد رأى مايكل يونغ في مركز “كارينغي” إن ” إسرائيل تبدو لأوّل مرّة في تاريخها مكشوفةً على نحو خطير. وحتى لو لم تتسبّب هجمات إيران الأخيرة بدمارٍ واسعٍ؛ فإن الضربات المقبلة،

ولا سيما تلك التي تُنفَّذ من دون إنذار مسبق، قد تكون أكثر دموية.

وهذا بحدّ ذاته كافٍ لتقول إيران إنها أعادت فرض توازن الردع”، مضيفاً “لطالما أظهرت إسرائيل نفسها في موقع قوّة. وقد نجح الإيرانيون في خدش تلك الصورة”.

يمكن قراءة ما حصل بأنّه يشكل هدفاً إيرانياً في الوقت المستقطع في شباك “إسرائيل”، لذلك يعدّ تقدماً استراتيجياً لإيران، على الرغم من محاولة إعطاء الفوز لـ “إسرائيل” من المراقب الأميركي

بذريعة صدّها لبعض الكرات. بيد أن ذلك لم ينجح؛ لأن الهدف قد وصل إلى الشباك، فقد حققت الجمهورية الإسلامية في هذه الجولة ربحاً وافراً في جولتها هذه.

من مفاعيل هذا الرد أن إيران الإسلامية غادرت مربع “الصبر الاستراتيجي” إلى البدء بمرحلة الردود الاستراتيجية، فضلاً عن التهديد المقابل برد فوري في حال حصول استهداف جديد لإيران،

وهذا ما يعدّ تحوّلاً مهماً في المنطقة. كما أظهرت إيران جزءاً من قدراتها العسكرية، مؤكدةً أن هذا جزء يسير جداً، وبالتالي استطاعت أن تثبت أنها لم تعد تعتمد على حروب الوكالة كما يقول الغرب،

بل إنها باتت جزءاً مباشراً في الصراع، وهذا بحدّ ذاته تحوّل مهم في عمر الصراع في المنطقة.

كذلك أكدت إيران استعدادها الذهاب إلى أكثر من ذلك، عبر إمكانية الدخول في حرب إقليمية، وإعادة بناء نظرية الردع الإيراني، وأنها باتت قوة لها اليد الطولى في المنطقة،

بعد أن تخطت عتبة عدم الرد وفاجأت الغرب، لا سيما واشنطن و”تل أبيب” بأنها مستعدة لمرحلة جديدة.

وبينما أعطت الأمان لمواطنيها بالدفاع عن أمنهم القومي، فإنها بالمقابل أعطت حلفاءها وأصدقاءها في المنطقة دفعاً جديداً في المواجهة،

بينما وجدت الدولتان العظميان روسيا والصين تحوّلاً استراتيجياً يصبّ في مصلحتهما بمواجهة الهيمنة الأميركية، فيما وضعت خصومها أمام إنذارٍ جديدٍ لعدم القيام بخطواتٍ غير مسبوقة،

وأبدت لأعدائها القدرة على المواجهة، وبالتالي تخطت عتبةً استراتيجيةً جديدة.

لقد فشلت “إسرائيل” فشلاً ذريعاً عند اعتدائها على القنصلية الإيرانية في دمشق، بتقدير رد الفعل الإيراني، إذ راهنت على أن إيران سوف تمارس ذلك الصبر الاستراتيجي والرد بطرق غير مباشرة.

‏لقد سقطت نظرية التفوق الأمني الإسرائيلي إلى دون رجعة، وكذلك تبدلت نظرية النصر والحسم السريع والقتال في أرض العدو، بعدما باغتتها إيران بردّها.

ويمكن القول إن “إسرائيل” فقدت جزءاً من الردع عقب عملية “طوفان الأقصى”، وساهم الرد الإيراني في تهشيم هذا الردع أكثر من ذي قبل، وهذا يعدّ أيضاً من الأهداف التي حققتها طهران.

وعليه، لا ضير بالقول إن تأثيرات هذه الضربة تشبه مفاعيل 7 تشرين الأول، ووفق قراءة ما حدث

فإن “إسرائيل” التي أصبحت كياناً هشاً، قد كُشف عجزها عن حماية كيانها منفردةً،

وبشكل واضح ظهرت حاجتها إلى الحماية الأميركية – الغربية مرتين خلال أشهر الحرب الأولى عقب “طوفان الأقصى” وتالياً عبر ليلة 14 نيسان/ أبريل،

وهذا يجعل المستوطنين يفقدون الثقة بـ”جيشهم” وسلطتهم، وبالتالي باتت “إسرائيل” بحاجة إلى تحوّل جديد لإعادة إثبات الردع المفقود لديها.

وهذا ما يتمظهر أيضاً في الخلافات داخل الكيان بشأن الرد مجدداً على إيران وحدوده وطبيعته، وبصرف النظر عن هذا الرد الذي ليس هو مدار بحثنا الآن،

فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته الجامعة الإسرائيلية حول قيام “إسرائيل” بالرد على الرد الإيراني بأن 74% من الإسرائيليين يعارضون ضربة ضدّ إيران

إذا كانت ستؤدي إلى خلاف مع أصدقاء “إسرائيل”، فيما 52% يعارضون حصول ضربة بشكلٍ عامٍّ ويخافون التصعيد.

إن ما تقدم إذاً، يبيّن أننا بتنا أمام مشهد جديد في المنطقة، يختلف تماماً عن سابقاته،

وربما هو الأكثر خطورةً وتعقيداً منذ عملية “طوفان الأقصى”، وفي ظل هذا المشهد الذي يراكم فيه محور المقاومة النقاط ليتقدم في السباق الحاصل،

فإن “إسرائيل”، المهشم أمنها والمفقود ردعها، بدأت في مسارٍ انحداريٍّ متسارعٍ لا يمكن توقفه إلا بتحولٍ جذريٍّ أصبحت فرصه مفقودة.

المصدر الميادين

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى