مقالات ورأى

مصر بعد الحرب على غزة: من عقيدة الأمن القومي إلى خطاب الاستقلال الوطني

بدأت الإمارات من الخليج الضربة الأولى بـ ٣٥ مليار دولار، تبعها صندوق النقد الدولي الذي زاد من قيمة قرضه- الذي قرره لمصر أواخر العام الماضي- ليبلغ ٨ مليارات دولار، بعد أن كان ٣ مليارات فقط، وتجاوز عن المراجعات المطلوبة أو سرعها. وأخيرا وليس آخرا؛ الاتحاد الأوربي الذي قدم حزمته البالغة ٨ مليارات دولار في شكل مظاهرة تأييد سياسي، ومالي بحضور ٦ من رؤساء الحكومات فيه، بالإضافة إلى رئيسة المفوضية الأوربية. بالطبع الطرف الرابع الذي لم يظهر في الصورة-وإن بدت أياديه حاضرة- فهو الولايات المتحدة.

السياق الأوسع لهذا كله: الحرب على الفلسطينيين في الضفة وغزة، ومنطقة يغيب فيها الاستقرار، وتمتلئ بحروب أهلية، مضى عليها أكثر من عقد، وأضيف إليها مؤخرا السودان.

أعادت هذه المشاهد المتكاملة والأدوار المنسقة التساؤل عن “عقيدة الأمن القومي” التي طرحها النظام- منذ ٢٠١٣- كأحد مكونات أيديولوجيته، والتي لا تزال حاضرة حتى اليوم- كما ظهر في خطاب الولاية الثالثة للرئيس السيسي- مفتتح إبريل الجاري.

تمحورت عقيدة الأمن القومي حول: الخوف من عدم الاستقرار والفوضى، والتفزيع من مصير بلدان في المنطقة انزلقت إلى الحرب الأهلية. امتزجت هذه الخطابات بمقولات غيبية، تجعل يد الله حاضرة دائما، ولكنه حضور يصادر الفعل البشري، ولا يجعله مسئولا عن نتائج كسبه. الدولة- في هذا التصور- فوق الطبقات والخلافات الأيديولوجية والسياسية، والفروق الطبقية، واللامساواة المناطقية والجغرافية، لذا فلا حديث عن تأثير السياسات المطبقة على الفئات الاجتماعية المختلفة، ولا المحافظات المختلفة، ويغيب تمثيل الدولة للفئات الاجتماعية المختلفة؛ لأن المطلوب هو “حفظ الدولة”.

١- استخدمت في الحشد والتعبئة لجموع المصريين بحجة الحفاظ على الدولة، وبإثارة مخاوفهم بالتفزيع والتخويف من مصير الفوضى وعدم الاستقرار.

٢- إلقاء المعارضة خارج الحظيرة الوطنية، وتبرير أعمال العنف الجماعي ضدهم، والانتهاكات التي تتم في حقهم.

٣-خلق التماسك الجماعي بين “الأمة المصرية”، والتعاضد بين مكونات النظام، وبين الاثنين معا، وفي النهاية؛ اصطفاف الجميع خلف قيادة النظام.

في هذه الطبعة يتم تقديم المصريين، باعتبارهم كتلة عضوية مصمتة ومتماسكة، ليست بينهم أية خلافات أو تباينات، وتتحول مؤسسات الدولة؛ لتكون وصية على الأمة والدولة، وقيادة النظام هي المنوط بها التعبير عن مصالح الجميع: الأمة والدولة.

٤- تسمح هذه العقيدة بعسكرة وأمننة السياسة والاقتصاد والمجتمع، واختراق مؤسسات الدولة- بهذه المكونات- من المستوى المحلي إلى الوطني.

٥- إعادة هيكلة الرأسمالية المصرية من خلال التدفقات المالية الخارجية، والمشاريع الضخمة التي تشرف على تنفيذها المؤسسات التي يطلق عليها سيادية.

كانت هذه هي الوظائف التي قامت بها على المستوى الداخلي، لكن إلى ماذا آلت نتائجها في الخارج؟

١- تم ارتهان إرادتنا السياسية لقوى في الإقليم- دول الخليج تحديدا- التي قدمت ولا تزال تمويلا سخيا.

٢- تم ارتهان قرارنا الاقتصادي للمنظمات المالية الدولية.

٣- وتم ارتهان دورنا في الإقليم- كما برز في الحرب على غزة.

٤- وكانت المحصلة: عجز عن التعامل مع مهددات الأمن القومي المباشر- كما في سد النهضة والسودان وليبيا وغزة، مع مخاوف كبيرة حول مستقبل استقرار الدولة المصرية المنهكة -كما ظهر في حزمة مساعدات الاتحاد الأوروبي.

صادر- قبل مأساة غزة- عن المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية، إلى أن تدخلات الإنقاذ لدول الخليج شكلت التحولات السياسية في مصر والسودان واليمن، وساعدت على إبقاء الأردن وباكستان واقفة على قدميها، على الأقل مؤقتًا، ولتحقيق ذلك قاموا بصرف أكثر من 52 مليار دولار أمريكي بين عامي 2011 و 2018.

إن من يتصور أن الخليج لن يتدخل للتأثير في التحولات الإقليمية، والوطنية التي يظن أنها قد تؤثر عليه سيكون واهما.

كانت دول مجلس التعاون الخليجي أهم الفاعلين الإقليميين الداعمين لجهود المؤسسات المالية الدولية من خلال الدفع بضرورة الاتفاق مع هذه المؤسسات- كما جرى في اتفاق مصر مع صندوق النقد ٢٠١٦، أو من خلال التمويل التكميلي- كما يجري مع مصر في قرضها الأخير مع صندوق النقد الدولي.

دول الخليج شريكة طويلة الأمد للمؤسسات المالية الدولية؛ يساهمون في ميزانياتهم، ويتعاونون معهم بطرق متعددة. على سبيل المثال، فإن أكثر من ثلث جميع مشاريع القطاع الخاص التي يمولها البنك الأوروبي؛ لإعادة الإعمار والتنمية في الشرق الأوسط منذ عام 2011، اشتملت على شركات دول مجلس التعاون الخليجي- وهي نسبة تزيد كثيرًا عن الشركات من أي دولة أو منطقة أخرى.

يجب أن يُنظر إلى القروض والمنح المقدمة من دول مجلس التعاون الخليجي، على أنها تعمل بطريقة تعزز بعضها البعض مع جهود المؤسسات المالية الدولية المختلفة التي تدعم تصوراتها الاقتصادية، والتي تقوم على النيوليبرالية؛ فلولا دول مجلس التعاون الخليجي لم تكن المؤسسات المالية الدولية قادرة على دخول المنطقة بهذه الطريقة الحاسمة بعد عام 2011.

بين الشريحة العليا من البيروقراطية المصرية في أجهزة الدولة المختلفة، خاصة ما يطلق عليها السيادية منها، وبين رأس المال الخليجي. لا يتم ذلك من مدخل اقتصادي ومالي فقط؛ بل يمتد إلى تصورات الحكم والأمن والثقافة- أي القيم التي يجب أن تسود.

باتت طبعة الحكم السائدة في المنطقة الآن ذات منزع استبدادي حداثي نيوليبرالي، يجب أن تختفي فيه المقاومة والنضالات الاجتماعية والاحتجاج السياسي، ومظاهر الأيديولوجيا كافة، ويسود نموذج دبي المعماري والثقافي.

والمؤسسات- كما قدمت؛ تتكامل القطاعات التي يتم الاستحواذ عليها مع بعضها البعض أيضا.

بلغت حزم الإنقاذ من دول الخليج للبلدان المختلفة منذ السبعينيات حتى الآن ٢٣١ مليار دولار- وفق تقدير المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية، واشتملت على ودائع البنوك المركزية، وتوفير المنتجات النفطية، ودعم الموازنة العامة، وتقديم المعونات المباشرة… إلخ.

كما تتكامل القطاعات التي يجري الاستحواذ عليها مع بعضها البعض، حيث البنوك والاتصالات والعقار الفاخر والبتروكيماويات والقطاع الزراعي… إلخ. ينظر إليها جميعا، باعتبارها مجالا واحدا يجري التحرك عليه.

يمتد التكامل بين القطاعات في الخليج وبين نظيراتها في الدول العربية الأخرى- ومنها مصر؛ حيث تمتد ديناميكيات دول مجلس التعاون الخليجي داخليًا في النطاق الوطني للدول العربية الأخرى، وتتوافق أنواع القطاعات التي تم تحديد أولوياتها؛ لتوسيع القطاع الخاص مع تلك التي تم التأكيد عليها في استراتيجيات رؤية دول مجلس التعاون الخليجي المستقبلية مثل: 2030في السعودية، و2050في الإمارات.

يسود عدد صغير من مجموعات الشركات المتنوعة للغاية. تشكل هذه المجموعات النواة الأساسية لرأس المال الخليجي الذي يتداخل فيه الخاص بالعام، وستظهر أسماؤها مرارًا وتكرارًا، ويتم التحكم في هذه المجموعات من قبل العائلات التجارية البارزة مثل: الخرافي، العليان، الراجحي، الغرير، الفطيم، والشايع الذين ينشطون في جميع لحظات دائرة رأس المال، ويعملون من خلال شبكة معقدة من الشركات التابعة والاستثمارات.

القيم عن الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط، إلى أنه “يتم أيضًا إعادة إنتاج التسلسلات الهرمية [التي تتم في الخليج” من خلال النطاق الوطني، مع تركيز السيطرة والملكية التي تحتفظ بها حفنة من الشركات التي تجلس على قمة قاعدة، تتكون من آلاف الشركات المحلية الأصغر”.

لها تعلق مباشر بأمننا القومي؛ السودان واليمن وليبيا، كما إنها حاضرة بالاستثمار والتحالف الجيواستراتيجي في قضايا تهدده أيضا، وأقصد سد النهضة وأمن البحر الأحمر.

هل هناك علاقة بين حزمة الإنقاذ البالغة ٣٥ مليار دولار، وتمدد استثماراتها في مصر التي تقارب الـ ٧٠ مليار دولار، وبين سياستنا في هذه الملفات والقضايا؟

تبلور إدراك النخبة المصرية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أن هجرة المجتمع المصري إلى النفط لا هجرة الدولة- كما يجري الآن- لم تكن السبب في كل التحولات التي طرأت على مصر في السبعينيات من القرن الماضي، ولكنها كانت “إحدى الآليات الاساسية التي أدت إلى تدعيم التبعية”-على حد قول نادر فرجاني في كتابه الهجرة إلى النفط، وعادل حسين الذي عنون كتابه: “الاقتصاد المصري.. من الاستقلال إلى التبعية”، لذا فهي تمت في سياق أوسع من التحولات في السياسة الداخلية والخارجية المصرية بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣.

كانت النقطة المرجعية في ذلك الزمان هو الانتقال من الاستقلال إلى التبعية السياسية والاقتصادية، وهو معنى- من وجهة نظري- تتكامل فيه- مع وضعنا الحالي- عناصر خمسة:

خاصة المتعلق بالسياسات العامة؛ لتكون أكثرا تعبيرا عن فئات اجتماعية أوسع، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “الكرامة الاقتصادية” لعموم المصريين.

نشير أن مزيدا من رأس المال الخليجي في الاقتصاد المصري يعني مزيدا من الاستبداد، ليس خوفا من انتقال النموذج الديموقراطي إلى أراضيه فقط- وفق نظرية الدومينو، ولكن أيضا لمصادرة ومنع النضالات الاجتماعية، والسياسية التي قد تنشأ احتجاجا على بعض ممارسات رأس المال.

الذي تم ارتهانه للشركاء الإقليميين والدوليين وللمنظمات المالية الدولية. هذا التحرير مقصده الجوهري هو- كما قدمت- تقرير السياسات العامة لصالح فئات اجتماعية أوسع مما هو مطروح الآن، فمع نموذج النيوليبرالية، فإن تقرير السياسات تضطلع به نخبة ضيقة تقرر لصالحها، وتحرم فئات عريضة من المواطنين من الاستفادة، وتكتفي ببعض برامج الحماية الاجتماعية التي تؤدي- في النهاية- لتخفيف معاناة هذه الفئات، دون أن تغير من أوضاعها شيئا.

لم تسهم السياسات الاقتصادية التي نُفذت، منذ 2014 في تغيير بنية الاقتصاد أو تحويله نحو مزيد من الإنتاجية والتنافسية، بل على العكس ساهمت في زيادة الاعتماد على الخارج عبر الديون والمساعدات وحزم الإنقاذ.

يرتبط المكون الأول بالثاني- أي السياسي بالاقتصادي- والثاني بالأول من زاويتين: السياسات الاقتصادية والمالية المطبقة لصالح من؟ ومن له حق تقرير السياسات باستقلال، بما يضمن أن تكون لصالح فئات اجتماعية متسعة من المواطنين؟

هو لم يعد طرفا خارجيا، يهيمن بقوة السلاح؛ وإنما تحالف يضم حكومات تنتمي إلى المنطقة لها تموضعها في النظام الرأسمالي العالمي، وتلعب وظائف لصالحه، كما تتحالف مع بعض مكوناته، ولكن لها أيضا امتدادها في الداخل الوطني بالتشبيك مع أجزاء من هياكل الدولة، بالإضافة إلى بعض القوى المستفيدة من سياساتها المالية- كفئات من رجال الأعمال- أو قوى عسكرية ذات امتداد اجتماعي كقوات الدعم السريع في السودان، وخليفة حفتر في ليبيا.

الجديد هو قيام دول عربية باختراق دول عربية أخرى عن طريق المال والسلاح والسياسة.

في هذا البعد يمكن النظر من الخارج إلى الداخل، أو من الداخل للخارج؛ بمعنى أن هناك أصحاب مصلحة في هياكل الدولة العربية ومحسوبيات عصبية بالمعنى الخلدوني- مالية أو قبلية أو طائفية- تسعى إلى إقرار والحفاظ على امتيازاتها عبر التحالف، والاندماج في الشبكات الإقليمية والدولية المعولمة، بما يضمن تحقيق الصالح لهم لا الصالح العام لفئات عريضة من الشعوب.

لا ينفي هذا النمط من التحالفات العابرة للوطنية وجود قوى أخرى، يمكن التعويل عليها- ولو لأداء بعض الأدوار- مثل القطاع الخاص الكبير وفئة رجال الأعمال، بالإضافة إلى الفئات الثرية من المجتمع المصري التي يسعى رأس المال الخليجي إلى تلبية تطلعاتهم الاستهلاكية، وتقديم الخدمات الاساسية لهم من صحة وتعليم وإسكان فاخر ومولات.

وهناك حرص من الولايات المتحدة وأطراف في الخليج، على أن يظل تابعا لتصوراتها حول الإقليم؛ هذا الدور مطلوب منه- من منظور وطني- أن يحافظ على مصالح مصر في الإقليم، لا أمن إسرائيل، ولا مصالح الولايات المتحدة، ولا التخديم على “اللحظة الخليجية”.

أثبتت الحرب على غزة، أن إسرائيل لا تزال من أولويات التهديد للأمن القومي المصري. هنا نشير أن إنهاك قوة المجتمع المصري بسياسات اقتصادية لصالح فئات مندمجة في القوة الرأسمالية الدولية، ومنعه من التعبير السياسي عن انحيازاته لصالح الفلسطينيين؛ هو السبيل لتحقيق أمن إسرائيل، والقضاء على أية أدوار لنا في الإقليم.

لم تحقق الولايات المتحدة السلام في المنطقة- كما زعمت، أو غيرت الديكتاتوريات إلى ديمقراطيات- كما ادعت، أو حولت منطقة مضطربة بشكل دائم إلى منطقة سلام؛ لكن الوجود الأمريكي في المجمل، ساعد في الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة، ومصالح حليفتها إسرائيل.

التي تتظاهر منذ أشهر في الشوارع، وفي كبرى الجامعات الأمريكية والأوروبية. يدلّ هذا على أن الديمقراطية في هذه الاحتجاجات تكتسب معنا سياسيا واقتصاديا وثقافيا/ قيميا. الديموقراطية- وفق هذا التصور- ليست مجرد آليات؛ لتسيير الانتقال السلمي للسلطة، وإنما هي قيم إنسانية مشتركة وعميقة، تمنع تحول الصراع بين دولة محتلة وشعب محتل إلى معركة عنصرية أو دينية أو حضارية، بما يغطي على الجوهر الحقيقي للنزاع. يشير هذا الحراك إلى مزيد من مشاركة الناس سياسيا؛ لتحقيق التوزيع العادل للفرص والثروات والدخل، ولضمان تمتع الجميع بالحقوق المتساوية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى