حسن نافعة .. يكتب

مخاطر التطبيع مع كيان يستهدف تفتيت العالم العربي

08 فبراير, 2023 02:45 مساءً
حسن نافعة
حسن نافعة

سياسي وأكاديمي مصري

أخبار الغد

في مساء يوم الخميس، الموافق 2 شباط/فبراير 2023، تم الإعلان عن زيارة للخرطوم قام بها إيلي كوهين، وزير الخارجية الإسرائيلي، التقى خلالها بالفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، وناقشا معًا مسودة مقترحة لمعاهدة سلام بين البلدين، أصبحت الآن جاهزة للتوقيع رسميًّا خلال عدة أشهر، وذلك بعد إتمام عملية نقل السلطة في السودان إلى حكومة مدنية. ها هو السودان إذن يتهيأ بدوره للحاق بركب "اتفاقيات أبراهام"، والذي بدأ يتحرك في أواخر عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مهندس وراعي "صفقة القرن" الشهيرة التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، ليصبح بذلك رابع دولة عربية تنضم إلى هذا الركب بعد أن سبقته إليه ثلاث دول عربية أخرى، هي الإمارات، والبحرين والمغرب.

 

لم تكن زيارة الخميس الماضي هي أول زيارة يقوم بها كوهين للسودان، إذ سبق له القيام بزيارة مماثلة عام 2020، حين كان وزيرًا للاستخبارات الإسرائيلية، أسفرت عن التوقيع على "مذكرة تفاهم" لتحقيق التعاون بين البلدين في مجالات فنية محددة، كالزراعة، والري، والاتصالات والتعليم وغيرها. غير أن هذه الخطوة بدت في ذلك الوقت أقرب ما تكون إلى "إعلان بحسن النوايا" منه إلى اتفاقية قابلة للتطبيق على أرض الواقع. ولأن الاتصالات العلنية بين إسرائيل والسودان راحت تتراجع منذ ذلك الحين، خاصة مع تصاعد حدة الأزمة الداخلية وإعلان العديد من القوى المدنية السودانية رفضها لأي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل، فقد ساد اعتقاد مفاده توصل أطراف المعادلة السودانية إلى اتفاق يقضي بتأجيل البت في هذا الموضوع الحساس إلى ما بعد إجراء الانتخابات التشريعية وتشكيل حكومة سودانية منتخبة. غير أن إسرائيل، والتي تدرك يقينًا أن أغلبية الشعب السوداني ترفض تطبيع العلاقات معها قبل تسوية القضية الفلسطينية، خشيت أن يؤدي هذا التأجيل إلى إضاعة الفرصة السانحة وقطع الطريق نهائيًّا على الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات مع السودان، ومن هنا قرارها بالتحرك الفوري قبل أن يقوم المكوّن العسكري الذي تراهن عليه بتسليم السلطة إلى المكوّن المدني.

ليس من الواضح بعد كيف ستتطور الأمور في السودان في المرحلة المقبلة، ومن ثم يصعب التنبؤ بما إذا كانت الحكومة المدنية المؤقتة، والمتوقع تشكيلها خلال الأشهر القليلة القادمة لإدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية، ستقبل التوقيع فعلًا على معاهدة السلام التي وافق البرهان على مسودتها مع كوهين، أم أنه سيكون بمقدور هذه الحكومة الإفلات من المصيدة المنصوبة لها، والإصرار على تأجيل اتخاذ قرار نهائي في هذا الموضوع إلى ما بعد قيام حكومة مدنية منتخبة تمثل الإرادة الشعبية. وفي تقديري، أن حكومة نتانياهو، مدعومة بالكامل من إدارة بايدن، ستحاولان استخدام كافة الوسائل المتاحة أمامهما للضغط على الحكومة المدنية المؤقتة، فور تشكيلها، كي توقع على معاهدة السلام المقترحة، وهو ما سيشكل، إن حدث، نكسة جديدة للعالم العربي وانتصارًا مؤكدًا لنتانياهو. فليس للسودان، في تقديري، أي مصلحة واضحة تدفعه للإقدام على تطبيع علاقته مع إسرائيل في الوقت الراهن، وذلك لأسباب عديدة يمكن إجمال أهمها على النحو التالي:

السبب الأول: يتعلق بنمط السلوك الإسرائيلي المتوقع في السودان بعد "التطبيع". فقد اعتادت إسرائيل فيما مضى على ممارسة سياسة استهدفت إضعاف السودان والحيلولة دون تمكينه من استغلال موارده الهائلة بطريقة تسمح له بأن يصبح دولة قوية ومتماسكة، وذلك من خلال العمل على إثارة النعرات العرقية، والقبلية، والدينية وإشعال الأزمات الداخلية وتقديم الدعم السياسي والعسكري للحركات الانفصالية. ومن المعروف أنها لعبت دورًا محوريًّا في انفصال جنوب السودان، وإثارة الاضطرابات في إقليم دارفور وفي غيره من الأقاليم السودانية، وهو دور ثابت ومدعم بالوثائق. وتوقيع السودان على معاهدة سلام مع إسرائيل لن يغير، في تقديري، شيئًا من سلوك الأخيرة بل، على العكس، سيمكنها من التغلغل أكثر في أحشاء المجتمع السوداني ومن توثيق علاقاتها مع جميع العناصر المزعزعة للاستقرار في السودان. وعلى كل من يشكك في هذا الاستنتاج، من منطلق أن إقامة علاقات تعاونية مع إسرائيل سيجبر الأخيرة على تغيير سلوكها، أن يراجع موقفه هذا على ضوء ما جرى لكل من مصر، والأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية بعد عشرات السنين من توقيعها على معاهدات سلام مع إسرائيل!!!

 

السبب الثاني: يتعلق بالتزامات السودان العربية. إذ يفترض أن تكون الدول العربية جميعها، ومن ضمنها السودان، ملتزمة بالمبادرة العربية التي اعتمدها مؤتمر القمة المنعقد في بيروت عام 2002، والتي تسمح لها بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، ولكن بعد إتمام الانسحاب من كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة في 67، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وتنفيذ القرار 149 لسنة 1948 الخاص باللاجئين الفلسطينيين. صحيح أن دولًا عربية أخرى خرقت هذا الالتزام، ومع ذلك فمن الأفضل للسودان أن يقتدي بالدول العربية التي ما تزال ملتزمة بهذه المبادرة، وليس بالدول العربية المهرولة نحو التطبيع، خاصة وأن إسرائيل ستكون هي المستفيد الأكبر من تطبيع علاقتها مع بلد يحتل موقعًا متميزًا على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وهو ما ستحاول إسرائيل توظيفه في صراعها الوجودي مع إيران، الأمر الذي قد يؤدي إلى إقحام السودان في صراع لا ناقة له فيه ولا جمل.

 

السبب الثالث: يتعلق بحاجة السودان في المرحلة المقبلة إلى الاستقرار الداخلي أولًا وقبل كل شيء. ولأن غالبية الشعب السوداني ترفض التطبيع مع إسرائيل قبل التوصل إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، يتوقع أن يؤدي توقيع أي حكومة سودانية على معاهدة سلام مع إسرائيل، خاصة إذا كانت حكومة غير منتخبة، إلى زيادة حدة الاحتقان الداخلي، وهو ما يفترض أن تحاول أي حكومة سودانية عاقلة أن تتجنبه في المرحلة المقبلة.

 

السبب الرابع: يتعلق بطبيعة الحكومة القائمة حاليًّا في إسرائيل. فهناك إجماع على أنها أكثر الحكومات تطرفًا وعنصرية في تاريخ إسرائيل، الأمر الذي يؤكده سلوكها الوحشي تجاه الشعب الفلسطيني منذ اللحظة الأولى لتشكيلها. وعندما يقدم وزير الأمن الداخلي، إيتمار بن غفير، على اقتحام المسجد الأقصى بنفسه، فليس لهذه الخطوة من معنى سوى أن حكومته تتبنى رسميًّا أقصى طموحات تيار الصهيونية الدينية تعصبًا، ألا وهو هدم المسجد الأقصى تمهيدًا لإقامة الهيكل مكانه. ولا شك في أن إقدام أي دولة عربية على تطبيع العلاقة مع حكومة على هذا القدر من الفاشية والعنصرية يعتبر خيانة ليس للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة فحسب، وإنما لكل القيم الإنسانية النبيلة.

أدرك أن إشكالية التطبيع لا تواجه السودان وحده وإنما تخص العالم العربي كله، ومن ثم فليس من العدل أن نطالبه بالوقوف وحيدًا في وجه تيار تطبيعي عارم بدأ يجتاح معظم الأنظمة العربية، اعتقادًا منها بأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لتجنب النتائج المترتبة على معاداة إسرائيل. فالواقع أن السودان ليس هو وحده المستهدف بالتفتيت من جانب المشروع الصهيوني، وإنما كل العالم العربي دون استثناء. فالعمل على تفتيت العالم العربي كان وما يزال وسيظل، مكونًا ثابتًا من مكونات السياسة الخارجية الإسرائيلية، والدلائل على ذلك كثيرة، ويمكن أن نجدها بسهولة في كتابات العديد من المفكرين من ذوي الميول الصهيونية، من أمثال المستشرق البريطاني-الأمريكي الشهير برنارد لويس، أو في بحث كتبه أوديد ينون، أحد الدبلوماسيين الإسرائيليين، ونشرته مجلة كيفونيم الناطقة باسم الحركة الصهيونية عام 1982 تحت عنوان "استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات"، أو في محاضرة شهيرة ألقاها آفي ديختر، وزير الأمن الداخلي والمدير الأسبق لجهاز الأمن الإسرائيلي (شين بت)، في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، وذلك في أيلول/سبتمبر عام 2008. لكن يبدو أن القادة العرب لا يصدقون ما جاء في هذه الوثائق وبالتالي لم يأخذوها أبدًا على محمل الجد. لذا فربما يكون من المفيد أن نذكر القارئ بأهم ما جاء فيها. ولأن البحث الذي كتبه أوديد ينون ونشرته مجلة كيفونيم، كما أشرنا آنفًا، يعد أشمل ما كتب عن المشروع الصهيوني لتفتيت العالم العربي، فربما يكون من المفيد أن نركز في مقالاتنا القادمة على ما جاء فيه بالذات. فهو بحث يعكس بشكل دقيق كيف يفكر العقل الصهيوني وما هي رؤيته للاستراتيجية التي ينبغي على إسرائيل أن تتبناها تجاه عالم عربي تعيش وسطه، لكنه لا يمكن إلا أن يكون معاديًا لها، وكيف لهذه الاستراتيجية أن تحقق انتصارها النهائي والمطلق على هذا العالم، والذي يفوقها تعدادًا وموارد بعشرات المرات.

أخبار مصر

عربي ودولي