تركيا والزلازل: ارتباط جغرافي حتمي يفرض التحديات على مدار التاريخ

تُعتبر تركيا واحدة من أكثر الدول عُرضة للزلازل على مستوى العالم، ويرتبط ذلك بعوامل جيولوجية معقدة جعلت من هذا البلد نقطة التقاء نشطة للصفائح التكتونية، ما يفسر تكرار الهزات الأرضية فيها عبر القرون.
ولا يخفى على أحد أن هذا العامل الجيولوجي لعب دورًا كبيرًا في رسم ملامح البنية الجغرافية والسكانية لتركيا، وفرض تحديات متكررة أمام مؤسسات الدولة ومجتمعها المدني.
موقع جغرافي حساس
تقع تركيا على ما يُعرف بـ”الصفائح التكتونية الأناضولية”، وهي محصورة بين ثلاث صفائح رئيسية: الصفيحة الأوراسية من الشمال، الصفيحة الأفريقية من الجنوب، والصفيحة العربية من الجنوب الشرقي. هذا الوضع يجعل من تركيا ساحة نشطة للصراعات التكتونية التي تؤدي إلى حدوث الزلازل.
هذا التفاعل المعقد بين الصفائح لا يقتصر على منطقة واحدة، بل يمتد على طول البلاد من شرقها إلى غربها، مما يعني أن معظم المدن التركية، بما فيها العاصمة أنقرة وإسطنبول وإزمير وديار بكر، معرضة بشكل أو بآخر لخطر الزلازل.
وتتسارع حركة الصفائح بمعدل بضعة سنتيمترات سنويًا، إلا أن تراكم الضغط لعقود قد يؤدي إلى زلزال واحد مدمّر خلال ثوانٍ معدودة.
فالق شمال الأناضول
أحد أبرز العوامل التي تفسر كثافة الزلازل في تركيا هو “فالق شمال الأناضول”، وهو فالق زلزالي نشط يمتد من الشرق إلى الغرب، ويوازي تقريبا ساحل البحر الأسود. هذا الفالق مسؤول عن عدد كبير من الزلازل القوية التي ضربت تركيا، بما في ذلك زلزال إزميت عام 1999 الذي أودى بحياة أكثر من 17 ألف شخص.
ويُعد هذا الفالق من أكثر الفوالق نشاطًا في العالم، ويشبه في خطورته فالق سان أندرياس في الولايات المتحدة. والمقلق أن الجزء الغربي منه، القريب من إسطنبول، يُعتبر من أكثر المقاطع عرضة للهزات القوية في المستقبل، بحسب تقديرات خبراء الجيولوجيا.
وقد رصدت عدة مراكز أبحاث محلية ودولية مؤخرًا نشاطًا زلزاليًا متزايدًا على طول هذا الفالق، ما يرفع من احتمالية وقوع زلزال كبير خلال السنوات القادمة.
سجل تاريخي حافل
تاريخ تركيا مليء بالزلازل المدمرة، أبرزها زلزال أرزينجان عام 1939، والذي يعد من أقوى الزلازل في القرن العشرين، بالإضافة إلى زلزال فان في 2011 وزلزال كهرمان مرعش في فبراير 2023، الذي كان من أعنف الزلازل في التاريخ الحديث للبلاد وخلف عشرات الآلاف من الضحايا.
زلزال أرزينجان تحديدًا، الذي بلغت قوته 7.8 درجات، أسفر عن مقتل أكثر من 30 ألف شخص، ودمّر أكثر من 100 ألف منزل، وكان له أثر بالغ على سياسات الدولة التركية في ما يتعلق بالبنية التحتية والتخطيط الحضري.
أما زلزال كهرمان مرعش، فقد أصاب أكثر من 11 ولاية، وتسبب في نزوح ملايين الأتراك، وأثار تساؤلات واسعة حول جودة الأبنية، خصوصًا تلك التي أُنشئت حديثًا ورغم ذلك انهارت بسرعة، مما كشف عن ثغرات فادحة في الرقابة والامتثال لمعايير السلامة.
استعدادات وتحديات
ورغم إدراك السلطات التركية لمخاطر الزلازل، فإن التحديات لا تزال قائمة على صعيد البنية التحتية والتخطيط العمراني. وتحاول الحكومة التركية منذ سنوات تطبيق ما يُعرف بـ”مشروع التحول العمراني”، وهو مشروع ضخم لإعادة بناء المساكن القديمة غير المقاومة للزلازل، إلا أن هذه العملية تواجه عقبات بيروقراطية ومالية كبيرة.
كما تشير تقارير دولية إلى أن نسب التأمين ضد الزلازل لا تزال منخفضة في معظم المناطق، ما يضاعف من الأعباء الاقتصادية على المواطنين في حال وقوع كارثة. من جهة أخرى، تحاول منظمات المجتمع المدني سد هذا الفراغ عبر حملات توعية ودورات تدريبية في كيفية التعامل مع الزلازل.
يبقى الزلزال خطرًا دائمًا في تركيا، ويستدعي استراتيجيات متواصلة للتأهب، تشمل التوعية المجتمعية، وتحديث قوانين البناء، وتعزيز إمكانيات الإغاثة. فبينما لا يمكن التنبؤ بالزلازل، فإن تقليل خسائرها ممكن من خلال استعداد علمي ومجتمعي حقيقي.
والسؤال الذي يتردد في أذهان الجميع اليوم: هل ستتمكن تركيا من تسريع وتيرة الإصلاحات والمواجهة العلمية للكارثة القادمة؟