
يبدو أن قاموس السلطة قد انزلق، منذ زمن، من لغة الدبلوماسية ، إلى لغة الأرصفة الخلفية. في ازقة باب الشعرية، لم يعد غريبًا أن تسمع من رئيس، أو زعيم، أو مسؤول في دولة، ما لا تسمعه في ساحة مشاجرة، أو ملاسنة في شارع شعبي.
اليوم فقط، خرج الرفيق محمود عباس ليقولها بصوته:
“أعيدوا الأسري
يا ولاد الكلب!”
هكذا، ببساطة… بلا تحفّظ، و لا حرج، ولا حتى تردّد. كأننا أمام جملة مأخوذة من فيلم البلطجي، او إبراهيم الابيض او مسلسل العتوله أو سيد الناس لا من خطاب رئيس سلطة.
ليس جديدًا على رئيس السلطة الفلسطينية استخدام هذا النوع من اللغة. واعتبارها نوع من العشم
فذاكرتنا السياسية تحفظ مشهدًا شهيرًا يعود إلى عام ١٩٩٤، يوم وقّع ياسر عرفات اتفاق أوسلو. لكن أبو عمار تردد للحظة – ربما لاعتبارات لا نعرفها –فإذا بـ”الرئيس مبارك” يخاطبه بنبرة صارمة فيها من التجاوز ما يطعن الوقار الرئاسي والدبلوماسي في مقتل إذ قال له :-
“وقّع يا ابن الكلب!”
عبارة سمعت ونُقلت كما هي، وشهد عليها التاريخ… ولم يعقبها عتاب ولا استنكار.ممن اصابته وهو رئيس وزعيم ثوره لم يبارح المسدس جانبه طوال حياته!
وللإنصاف، لأبو عمار فالرئيس مبارك – رحمه الله – كان معروفًا داخل كواليس السلطة بأسلوبه الحاد في مخاطبة وزرائه، ومن هم تحت سلطته بلغة قريبة من لغه الشارع، او المعسكر ولم يكن يستثن من ذلك إلا بعض الشخصيات القليلة، مثل فاروق سيف النصر، وزير العدل الأسبق، والذي كان يكبره سنًا، ويُقال إن والد سيف النصر كتب لوالد مبارك كارت التوصية لدخول ابنه ،الكلية الحربية.
وعلى ما يبدو، تحوّلت هذه “التعابير الحيوانية” إلى لغة طبيعية بين قادة العالم.
خذ مثلًا مدرسة دونالد ترمب، التي نقلت منذ ولايته الاولي الشتائم من الهامش إلى العنوان الرئيسي.
وقد كشف كتاب لصحفي أمريكي انه وصف احد الرؤساء العرب بالقاتل ابن
ال…….
وها هو يصف زعيم كوريا الشمالية بـ”الرجل الصاروخ”، ويسخر من قادة الناتو، بل ويصف بعض الدول بأنها “حفر جحيمية”، في خطاب لا يقل انزلاقًا عن أي حانة مزدحمة آخر الليل.
بوتين أيضًا لم يكن بعيدًا عن هذا المزاج. حين وصف الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأنه “مهرّج”، بل وألمح إلى أن حكومته “خليط من الفاشيين والمجانين”.
أما في العالم العربي، فحدّث ولا حرج…
من وصف “الحكام
لخصومهم ب”العملاء”، إلى “كلاب الاحتلال”، إلى “الخونة”، إلى “البغال التي تجرّ البلاد نحو الهاوية”… ألفاظ تتطاير من على أفواه الرؤساء وكأنهم فرقة مسرحية فقدت نصّها وانطلقت في ارتجال سوقيّ.
السؤال هنا ليس في الشتيمة بحد ذاتها، بل في دلالتها السياسية… حين يصرّح رئيس بهذا النوع من الألفاظ، فهو يفتح الباب أمام لغة من الانحطاط العلني، ويمنح شرعية للسباب، ويسحب الهيبة من المقام الذي يفترض أن يُلزم صاحبه بالتعالي عن الصغائر.
الشتيمة، حين تصدر من رأس الدولة، لا تكون رد فعل، بل سياسة، هي جزء من أدوات “اللا دبلوماسية” التي تسعى لتأليب الرأي، أو تغطية الفشل، أو تعبئة الغضب الشعبي على حساب الخصوم.
وربما الأهم من كل هذا: أن لغة الشتيمة ليست عفوية. هي نتاج بيئة سياسية جاهله فقدت الاتزان، وفقدت الأخلاق، وفقدت حتى القدرة على التجمُّل. فالرئيس الذي لا يُجيد إلا “أولاد الكلب”، غالبًا لا يملك حجةً أفضل.
وهنا، عنوان هذا المقال ليس قبولا بلغه الشتائم، بل لنُسلّط الضوء على مفارقة مُضحكة مُبكية:
إذا لم يعد الرؤساء أنفسهم يعتبرون “يا كلب” و”ابن الكلب” شتائم، فما الذي يمنع الشعوب من استخدام ذات اللغة؟
وإن كانوا يعتبرونها سبابًا يُحرج المقام، فالأولى بهم ألا يبدؤوا بها!
نحن لا نحب تلك اللغة، ولا نروّج لها. لكنها باتت جزءًا من مشهد سياسي يتحدّث فيه الزعيم بما لا يجرؤ المواطن على كتابته في تعليق على فيسبوك دون ملاحقة قانونية.
فمن يعلّم الرؤساء أن الكلمة مسؤولية، وأن المنصب لا يعطيهم إذنًا بالانزلاق؟ ربما آن الأوان لنقولها صراحة، لا من باب الشتم، بل من باب التوصيف السياسي:
الرؤساء… أولاد الكلب.