
كنت متخيلا أن الصورة المبتذلة للممثل الراقص محمد رمضان في حفل عام بالولايات المتحدة الأمريكية ستصنع صخبا هادرا يدوم لفترة من الوقت في العام المصري وداخل أروقة النخب الثقافية والفنية والتنويرية للبحث عن معالجة انعكاساتها السلبية على الهوية المصرية وتدمير جيل كامل بل أجيال قادمة باتت قدوتها الحياتية هذه الرموز الفنية والرياضية بعدما تم تغييب القدوات العلمائية والأخلاقية.
ولكن لأننا في زمنٍ مثقوب الذاكرة، يمرّ علينا مشهد مهين فنغضب قليلًا، ثم ننسى، وننتظر السقوط القادم الذي لا يتأخر كثيرا.
لكنني لم أنس ، لم تنخدع ذاكرتي بمغادرة ذاك المشهد – الذي أطلّ فيه محمد رمضان على الناس بزيّ أنثوي، مستعرضًا جسده وناسفًا لمعاني الرجولة والحياء – لأنه لم يكن مجرد لقطة عابرة ولكن كان صفعة على وجه الوعي، وعلى جبين الفن، وعلى ذاكرة مجتمع بدأ يتعوّد القبح، ويستهلك الابتذال كأنه من لوازم العصر في دولة العسكر.
ولأنني لا أتعامل مع المشاهد بوصفها عابرة، بل أراها كعلامات في طريق التفكك قررت أن أكتب، وأن أُذكّر، وأن أضع هذه الصورة على طاولة النقاش مجددا ،لا لنلوم شخصا، بل لنفضح ظاهرة هي الأخطر حاليا في مجتمعنا.
لم نعد بحاجة إلى كثير من التأمل لندرك أن هناك أزمة حقيقية تعصف بالهوية الفنية والثقافية في مجتمعاتنا ، الأزمة لم تعد كامنة، بل خرجت إلى العلن بكل وقاحة، وباتت تقدم على أنها إبداع، بينما هي في حقيقتها سقوط معلن بات مستمرا ومتواصل منذ الانقلاب العسكري 2013.
الصورة الأخيرة ليست فكرة فنية مبتكرة خارج الصندوق كما يحاول البعض التبرير ، ولكنها واحدة من أقبح صور الانحدار الذي وصل إليه ما يسمى اليوم بـ “الفن المعاصر” برعاية دول العسكر المصرية.
فالصورة لم تكن إلا استعراضا فجا للابتذال، ونسفا علنيا لمفاهيم الرجولة والذوق والهوية ، رمضان – الذي قدم يوما كممثل موهوب – تحول إلى مشروع “تفكيك الهوية” برعاية التريند الذي يلهث خلفه، مدعوما بإعلام سلطوي لا يرى في الفن سوى أداة للهو والتغفيل، وفي الانحدار مادة قابلة للتداول.
لقد أصبح رمضان نموذجا للفنان المفلس الذي لا يمتلك ما يقال، وليس في جعبته ما ينفع ، ولا يملك قضية، فيلجأ إلى ما يصدم، ويبحث عن الجدل حتى لو تحول الى راقصة استربتيز على مسرح أمريكي.
الفن يا سادة ليس جسدا يتحرك في مسلسل أوعلى المسرح، ولا زيا غريبا يرتدى لجذب الكاميرات، الفن هو رسالة، هو موقف، هو تعبير عن وجدان الشعوب وهمومها ، فماذا قدم محمد رمضان لجيل كامل يتابعه غير مشاهد العنف، والبلطجة ، والنرجسية، والجسد العاري، والصوت العالي؟
الصورة التي اجتاحت مواقع التواصل الإجتماعي عربيا وغربيا لفنان مصري يرتدي بدلة راقصة لا تعبر عن حرية فنية، بل عن فوضى قيمية، وانفلات أخلاقي، لم يزينها بريق الكاميرا وإعلانات الرعاة.
إنها دعوة مفتوحة لفتنة جيل كامل ، وتشويه متعمد لصورة الفنان المصري، تحتاج لإعادة تعريف الفن و الرجولة، لا على أساس الابداع والأخلاق، بل وفق مقاسات بدل الرقص وذوق الانحدار وسفالة الظهور.
من المؤسف أن تمضي هذه الواقعة بدون وقفة جادة و يترك المجال العام هكذا بلا رقيب، تعرض فيه هذه النماذج المشوهة على أنها تقدم الابداع والتطوير العصري للهوية الفنية.
الحقيقة أن هذا “الفن” في زمن العسكر بات لا يبني بل يهدم؛ لا يرقي الذوق بل يدمره؛ لا يعبر عن المجتمع، بل يفرغه من نفسه وعاداته وأخلاقه ، مايستدعي استنفار كل طاقات المثقفين للوقوف في وجه ظاهرة تغريب باتت تهدَد القيم المصرية الجماعية.
التغاضي عما فعله محمد رمضان ونسيانه مؤقتا ليس إلا دعما واستحسانا وجواز مرور مستقبلا للسماح بكل المبتذل والفارغ ، والسكوت عليه لا يعد خيارا صائبا ، فالتغاضي يعد تواطؤا بحق أجيال مصرية وعربية قلدته في الاسفاف والبلطجة في الماضي وقد تخسر رجولتها ومروءتها في الحاضر والمستقبل، ، ما يدعو كل المخلصين لخوض معركة حقيقية للحفاظ على وعي هذا الشعب، وعلى ذوقه، وعلى هويته، ورجولة شبابه.