د. أيمن نور يكتب : ورقه من مذكراتي.. يوسف شاهين .. بادلني مصروفي…بحزب

حين طرقتُ باب مكتبه بشارع شامبليون، في مطلع الثمانينات ،
لم أكن أمتلك أكثر من حلم صغير ومصروف طالب في السادسة عشرة.
لم يكن يوسف شاهين فقط مخرجًا، بل أسطورةً يصعب الاقتراب منها.
أتيتُه وكنت رئيسًا لاتحاد طلاب جامعة المنصورة، لأطلب أفلامه لإقامة اسبوع لها في جامعة المنصوره.
الدكتور كمال احمد رئيس الجامعة، وقتها رفض، أن تتحمل ميزانية الاتحاد التكاليف ،فقررت أن أموّل المشروع من جيبي.او بالأصح مصروفي.
عندما التقيت “جو”في مكتبه باغتني بالسؤال من سيدفع للشركة قيمه ايجار الافلام ، وأجهزة العرض؟
قلت:- من مصروفي!
انفجر ضاحكًا ثم صرخ: “مصروفك لربع قرن لن يعوّض ثمن ماكينة عرض لو تحطمت!”
تأهبتُ للانسحاب، فأوقفني بسؤال ساخر: “كم واحد منكم هييجي يشوف أفلامي؟”
أجبته: “آلاف”.
ردّ بسخريته المعهودة: “إنت فاكرني كروديا؟!”
قلت له: “لا..فاكرك فنان…
ونحن في أمسّ الحاجة إلى أفلامك، لأنها تحرض على التفكير.”
فجأة، صرخ: “يا جابي! يا سيف!” ودخلا فورًا جابي خوري وسيف عبد الرحمن، فأمرهما “خدوه من هنا ولا يخرج من المكتب قبل أن تزودوه بكل ما يحتاج ويطلب: أفلام، ماكينات عرض، أفيشات قديمة، وكل شيء.. وبلا مقابل. !
يوم الافتتاح، وجدت شاهين نفسه يحضر بنفسه وبصحبة رجاء حسين، وسيف عبد الرحمن، ومحمد منير، وآخرين من نجوم الافلام التي ستعرض علي مدار الأسبوع.
في يوم الافتتاح ،وقف مذهولًا أمام مدرج الدكتور بدراوي الذي غصّ بآلاف الطلبة.
قال لي: “ده جمهور ما شُفتوش في حياتي!” ثم دخل المنصة بعد تردد وسألهم: “أنتم بجد جايين علشان أفلامي؟”
رد التصفيق بعاصفةٍ من التأكيد. قال عندها: “يبقى لازم أسيب السينما وأؤسس بيكم حزب سياسي للشباب!”
بعد العرض، جلسنا على عشاء . وضحك وقال لي: “كنت حاخسر كتير لو خدت مصروفك لربع قرن! الحزب اللي شفته النهارده أغلى كتير.”
بعد أربعة وأربعين عامًا، لا يزال دين يوسف شاهين في عنقي. لم يأخذ مصروفي، لكنه منحني مفاتيح لوعي مختلف، وفهم أعمق لمعنى الفن، وأهمية أن يُفكّك الإنسان قيوده الذاتية.وينقل بعضا من حياته للناس بحلوها ومرها وكما قال لي شاهين يوماً لا احد سيتحدث عني اصدق من لساني.
ولربما تكون هذه الجملة ، كانت أحد دوافعي ، لكتابة أوراق من مذكراتي وان انشرها يوماً بيوم في حياتي.
علّمني شاهين أن أكبر رأس مال للفنان اوالسياسي هو الناس.
علمني معني أن تمتلئ القاعات حبًا لك يعني أنك مدين، بفكرة، بثمن تدفعه. وأنا دفعته، راضيا ،سجنًا واعتقالًا،و نفيا ،لمرات في حياتي.
كانت علاقتي به ممتدة . انقطعت فقط عندما اعتقلت عقب انتخابات٢٠٠٥.
مات يوسف شاهين، وأنا خلف القضبان، لم أودّعه، لكني أكتب له الآن رسالة متأخرة.
شاهين لم يكن فقط مخرجًا. كان ثائرًا، وكان مدرسة تمرد لا تخجل من الصدام، ولا تهرب من المواجهة. كان يدرك ان للسينما رسالة، وللحلم ثمن.
لا أظن أن خياله السينمائي، مهما حلق ، كان سيتنبأ بأن ثمن ذلك الحزب الذي حرضني عليه ،سيكون سنوات من السجن . لكنه علمنا بفنه أن نؤمن بما نفعل، حتى وإن دفعنا العمر كاملاً ثمنًا لفكرة.

