
حينما تدخل إلى قلب معركة السياسة، لا يمكنك أن تتعامل معها كهاوٍ أو مجرّد عابر سبيل. ومنذ أن خُطت قدماي على عتبة حزب الوفد في يناير من عام 1990، وجدت نفسي في مدرسةٍ ليست كبقية المدارس.
إنها مدرسة فؤاد باشا سراج الدين، حيث السياسة ليست مجرد شعارات أو تحالفات، بل مبادئ لا تتبدل، ووطنية لا تُباع.
فمنذ اللحظة الأولى التي خطوت فيها عتبة حزب الوفد، لم أكن أنتمي فقط إلى كيان سياسي، بل كنت أدخل مدرسة وطنية عظيمة، تخرج فيها عمالقة النضال الليبرالي، وكان فؤاد باشا سراج الدين هو المعلم الأول.
وها أنا، بعد خمسة وثلاثين عامًا من المواقف، ولم تجرؤ قدماي على دخول أي حزب آخر رغم الفرص الكثيرة التي أتيحت لي، ورغم أنني شاركت في تأسيس حزب “الوفديين الأحرار” عام 1998 مع المنتج السينمائي والسياسي عدلي المولد، ولم أنضم إليه.
ونفس القرار اتخذته لاحقًا عندما طلب مني صديقي الصحفي الكبير مصطفى عبدالعزيز مساعدته في تأسيس حزب المحافظين، كنت أول من انطلق لتنفيذ الفكرة، وجمعت وحدي التوكيلات من أربع محافظات أسيوط والمنيا وسوهاج والوادي الجديد، وتجاوزت الأعداد المطلوبة،
لكنني، رغم ذلك، لم أوقّع توكيلاً واحدًا. لماذا؟ لأن الوفد ليس مجرد حزب بالنسبة لي، بل عقيدة سياسية وعشق متجذّر لا يهتز.
الحقيقة أن حبي العميق لحزب الوفد لم يمنعني من احترام وتقدير قامات فكرية وسياسية أخرى، وعلى رأسهم الدكتور أيمن نور.
علاقتي بالدكتور أيمن نور بدأت في جريدة الوفد، حيث عملت تحت رئاسته، ولم يكن مجرد رئيس قسم، بل كان مفكرًا حقيقيًا، وقائدًا بملامح استثنائية.
ورغم هذا الارتباط، لم أنضم لحزب الغد رغم صداقتي العميقة مع الدكتور أيمن نور .. ولم أكتب في صحيفته، رغم احترامي لزميلي الكبير عبدالنبي عبدالستار، الذي ترأّس تحريرها .. وقد عملت مع عبدالنبي في جريدة صوت الأمة، ومع ذلك حافظت على موقفي لم أعمل معه في جريدة الغد،
ولم أنضم إلى حزب الغد عند تأسيسه أو بعد تأسيسه، لكنني وقفت من بعيد أتابع وأتأمل في صمت ما صنعه هذا الرجل في زمن استثنائي كانت فيه الدولة ترتعد من صوت مختلف.
بعضهم يبرر التنقلات السياسية بالخداع أو بحجة الظروف، لكن الحقيقة أنّ من يتخلى عن مبادئه مرة، يفقد حق الحديث باسم الناس إلى الأبد.
لم أغامر ببيع انتمائي، حتى عندما أتيحت لي فرص ذهبية للانضمام الي الحزب الوطني الديمقراطي – الحزب الحاكم سابقاً – لم أنضم .. لأن الانتماء لحزب سياسي ليس مِزاجًا مؤقتًا أو مجرد فرصة.
في برنامجه “شباك نور“، فتح أيمن نور أبواب الذاكرة، ليسرد تفاصيل تُكشف لأول مرة، وتُفجر حقائق ظلت مطمورة لسنوات. كان اللقاء بمثابة قنبلة سياسية فجّرت عفن سنوات من التزييف والمراوغة.
تحدث نور عن مشروع “جيل المستقبل” الذي كان يُدار من خلف ستار باسم جمال مبارك، ذلك المشروع الذي حاول التسلل إلى المعارضة تحت غطاء الإصلاح، لكنه في الحقيقة كان محاولة فاشلة لشراء الشرعية السياسية.
ما سرده نور لم يكن مجرد ذكريات، بل وثائق نارية تدين نظامًا كاملاً .. حكى عن محاولة إدخاله شخصيًا في اللعبة من خلال وسطاء يزعمون أنهم “مهتمون بالحزب”،
بينما الهدف الحقيقي كان واضحًا: تفريغ المعارضة من مضمونها واستغلال شرعية “الغد” لإضفاء مشهد ديمقراطي زائف على حكم الفرد.
تلك اللحظة، حين رفض نور الدخول في تلك المعادلة القذرة، لم تكن مجرد موقف، بل كانت بداية تمرده الحقيقي.
أيمن نور لم يكن سياسيًا تقليديًا، بل كان ثائرًا حقيقيًا يرتدي بدلة مدنية .. مشروعه الحزبي لم يُبنى على شعارات خشبية، بل على ملفات مكتملة تجاوزت 600 صفحة قدمها بنفسه تحت قبة البرلمان كبرنامج بديل لبرنامج الحكومة.
حينها، لم يكن مجرد نائب معارض، بل كان صوتًا يمثل مئات الآلاف ممن خنقتهم الدولة ولم تترك لهم سوى صمت القبور.
رئيس الوزراء وقتها، عاطف عبيد، لم يجد مفراً سوى الاعتراف بجودة البرنامج، لكن الدولة العميقة لم تكن تبحث عن أفكار، بل كانت تحارب الرموز.
عندما تحدث أيمن نور عن تلك المرحلة، لم يكن يهدف لاسترجاع الماضي، بل فضح الحاضر، وكشف حجم التآمر الذي تم خلف الكواليس.
اللقاءات التي دارت في كواليس الحكم، الاتصالات الأمنية التي حاولت اختراق الحزب، وحتى المقالات الصحفية التي كُتبت بأوامر فوقية لتشويه صورته، كلها كانت ضمن حرب شعواء ضده وضد كل من يؤمن بإمكانية بناء وطن حر وعادل.
ما فعله نور لم يكن مجرد تأسيس حزب، بل كان إعلانًا لولادة مشروع مقاومة سياسية في وجه منظومة فساد مركبة.
كان يعلم أن الثمن سيكون باهظًا، وقد دفعه بالفعل عندما تم اعتقاله بعد 90 يومًا فقط من انطلاق حزب الغد، في فضيحة قانونية هزلية لا تصمد أمام أي منطق.
تم تزوير خمسة توكيلات، وصُنع منها قضية أُديرت مؤسسات الدولة كلها يوم جمعة فقط لتصفيته سياسيًا. نعم، كل أجهزة الدولة تحركت من أجل القضاء على رجل يحمل فكرة!
أدهشني نور حين قال في “شباك نور” إن الهجمة عليه لم تكن بسبب حزب جديد، بل لأن مشروعه كشف نفاق السلطة ومعارضة الصالونات في آن واحد.
رفض أن يكون جزءًا من معادلة مزيفة، ورفض أن يبيع روحه مقابل منصب أو اتفاق سري .. وهذا ما جعله هدفًا مشتركًا للجميع: السلطة، الإعلام، المعارضة المعلبة.
هذه ليست مرافعة دفاع عن أيمن نور، فهو لا يحتاج إلى من يدافع عنه، بل هي شهادة حق في زمن صار فيه الصمت خيانة.
لقد قدم نموذجًا نادرًا في السياسة المصرية: المثقف الليبرالي، الجريء، غير القابل للشراء، الذي لم يساوم على أفكاره رغم السجن والتشويه.
اليوم، ونحن نعيش في واقع سياسي رمادي، تفتقد فيه الساحة لأصوات حقيقية، نحتاج أن نتذكر جيدًا ما فعله أيمن نور.
نحتاج إلى أن نعيد تعريف السياسة على الطريقة التي خطها بنفسه: لا ولاء إلا للمبدأ، ولا تحالف إلا من أجل الحرية، ولا مشروع سياسي إلا إذا واجه الفساد لا صفق معه في الخفاء.
أيمن نور لم يكن زعيمًا عاديًا، بل كان زلزالًا سياسيًا عصف بكل معادلات التوريث، وأسقط هيبة السلطة في أعين البسطاء، وفضح نفاق المعارضة في الصالونات.
لذلك حورب، وسُجن، وشُوه .. لكنه ظل صامدًا، قويًا، ثابتًا على مواقفه، لا يلتفت خلفه، ولا يساوم. وهذا وحده يكفي ليكون في ضمير التاريخ رجلًا سبق زمانه.
ولا يمكن لأي باحث عن الحقيقة أو عاشق للحرية أن يتجاهل ما قدمه الدكتور أيمن نور للمشهد السياسي المصري والعربي.
لقد كان – وما زال – حالة فريدة من نوعها، لا تقبل الترويض ولا تعرف الانحناء، رجلٌ سدد ثمن مواقفه من حريته الشخصية، لكنه لم يتراجع، بل ازداد رسوخًا وقوةً وإيمانًا بأن النضال لا يُقاس بعدد المقاعد ولا بعدد المتابعين، بل بمدى القدرة على قول “لا” في زمن يرفع فيه الجميع شعار “نعم”.
والتاريخ – وإن تأخر – لا ينسى من وقف وحيدًا في وجه الطوفان .. فسلامٌ على من ساروا في طريق الشوك حفاة، كي لا تموت الكرامة، وسلامٌ على أيمن نور، لأنه ببساطة… لم يخن.