
حين يكتب أستاذي الدكتور المنصف المرزوقي، فإنك لا تقرأ مقالًا، بل تعيش تجربة فكرية ممتدة، تتشابك فيها المعرفة بالتأمل، والوجدان بالحكمة، والتاريخ بالمستقبل.
وقد قرأت مقاله “احذروا.. الليبرالية الفاشية على الأبواب” بروح التلميذ المتعلّم، الذي يتوقف أمام كل فقرة ليعيد اكتشاف ما ظنه من البديهيات.
ومع كامل التقدير لما سطّره الدكتور المرزوقي، من تحليل دقيق لمسار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وما حمله من تحذير عميق من تحولات تتلبّس ثياب الليبرالية وتُمارس جوهر الفاشية، فإنني أجد نفسي أمام ملاحظة تستدعي الوقوف والنقاش الهادئ، لا اعتراضًا على مضمون المقال، بل حرصٍا منّي على ألا تُدان “الليبرالية” – كقيمة – بجريمة يرتكبها خصومها الألداء، إن جوهر الليبرالية – كما نشأت في رحم نور الفكر الأوروبي وامتدّت في العالم كفكرة تحرّرية – لا يعرف الفاشية، بل يناقضها في الجوهر والبنية.
فالليبرالية وُلدت من رحم النضال ضد التسلط، ضد تأليه السلطة، وضد تحكّم النخب المغلقة.
فهي التي رفعت رايات الحرية الفردية، والتعدّدية السياسية، وحرية التعبير، والمساواة أمام القانون، وحقوق الإنسان التي لطالما دافع عنها الدكتور المرزوقي نفسه، وكان من فرسانها النبلاء.
كرئيس جمهورية تونس
وكرئيس للمجلس العربي
وكمفكر حر
سيادة الرئيس الجليل
احسب ان ما تمارسه الإدارة الأميركية الحالية – أو بالأدق ما يهدد به تيار ترامب المحافظ والشعبوي – ليس تحوّلاً في الليبرالية، بل هو تمرّد صريح عليها، بل انقلاب على أبجدياتها.
سيادة الرئيس هذا التيار هو امتداد مباشر لليمين القومي المتعصّب، الذي طالما عادى الحقوق المدنية، وسعى إلى تقويض المكتسبات الليبرالية، لا باسم إصلاحها بل باسم دفنها.
أما كيرتس يارفين وأشباهه من منظّري الرجعيةالجديدة”، فهم لا يستقون من قيم الليبرالية، شيء بل من بئر الظلام السلطوي، ومن تراث النازية والفاشية، حتى لو تنكّروا في لغة “الابتكار” والتقنية، وتخفّوا في حرير المصطلحات.
وهنا اري بحكم العدالة والإنصاف الذي تعلمناه من (المنصف ) الاول اسما وفعلاً…..الفصل – لا الخلط – بين الليبرالية كمنظومة فكر، وممارسات القوى الرأسمالية المتوحشة التي تمتهن هذه القيم،
وتدوس عليها بآليات السوق أو بأحذية الاستبداد. فالليبرالية ليست هي “الولايات المتحدة”، ولا يُحمل فكر على دولة، ولا دولة على فكر.
– كليبراليين عرب – كنّا دومًا في صف الدفاع عن “الليبرالية الإنسانية”، تلك التي تجمع بين حرية الفرد وكرامة الجماعة، بين السوق الحرة والعدالة الاجتماعية، بين حرية التعبير وحرية الضمير، وهي ذاتها التي دافع عنها الدكتور المرزوقي في كل مراحل نضاله.بانصاف المنصف وعدالة قاضي القضاه
اعتقد يقينا ان أخطر ما نواجهه اليوم، ليس فقط هذا المسخ الجديد الذي سماه الدكتور المرزوقي بـ”الليبرالية الفاشية”، بل هذا الارتباك المفاهيمي الذي يُصوّر لضمائر الشعوب أن الليبرالية هي الطريق إلى الفوضى أو التسلط، بينما الحقيقة أن ما يتهدد العالم اليوم هو هذا التوحّش الترمبي ،الرأسمالي غير المُنضبط، الذي لا دين له ولا وطن ولا ضمير، والذي يستثمر في كل شيء، حتى في الاستبداد.
نعم، نوافق الدكتور المرزوقي تمامًا في توصيفه لما يحدث في أميركا من تحولات كارثية لا اخلاقيه، ونثمّن تحذيره العميق من النظام الذي يتشكّل أمام أعيننا، ونشاركه في الإيمان بأن على الشعوب، ولا سيما شعوبنا، أن تكون أكثر يقظة من أي وقت مضى.
لكن تحفظنا الوحيد، بل حرصنا، هو ألا يُربط اسم الليبرالية – ظلماً – بهذه البشاعة الزاحفة،
وألا نُدين فكراً من أنبل ما عرفته الإنسانية، بسبب من انتحلوه وابتذلوه وسخّروه لأغراض تناقضه تمامًا.
وختامًا، يبقى للدكتور المرزوقي مقامه العالي، ومكانته في قلوب المؤمنين بالحرية والكرامة والإنسان. ونحن – رغم تحفظنا البسيط– نعيد نشر المقال الهام ونعتبره نداءً نبيلاً للوعي، ومنارة فكرية تستحق أن تُقرأ وتُناقش، لا أن تُرد أو تُعارض. فالفكر لا يُقابل إلا بالفكر، والكلمة لا تُجابه إلا بكلمة أكثر حبًا، وحرصًا على التواصل وتقريب الأفكار والتوجهات الإنسانية .