شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: من مذكراتي – الصراع على الكرسي المحرم (٩)أحمد شفيق… عاد ولم يعد – حكاية وفاة الفريق الرقيق شفيق

كانت عطلة عيد الفطر الأخيرة حبلى بأنباءٍ هامسة، تقف على أعتاب التأكيد، لكنها لا تدخل إليه… أنباءٌ عن وفاة الفريق أحمد شفيق، من مواليد نوفمبر ١٩٤١، عن عمر يناهز الثالثة والثمانين. كان السؤال الذي راودني فورًا: هل مات الفريق الرقيق؟ هل غادر الدنيا كما غادر السياسة؟ هل توارى للابد عن المشهد كما توارى عن الإعلام و الذاكرة الرسمية؟

اللافت أن البعض، حين سألتهم عن صحة الخبر، بادروني بالسؤال: “هو لسه في الإمارات؟!” وكان جوابي: “الرجل عاد مرحّلًا إلى مصر منذ الثاني من ديسمبر ٢٠١٧!” عاد… لكنه يبدوا أنه لم يعد!!

ربما يكون عاد بجسده فقط، وغاب بصوته وصورته. عاد كما يريد لنا البعض، مقيدًا، لا بالأغلال، بل بصمتٍ رسمي، ونسيانٍ شعبي، ومنعٍ من الظهور أو التأثير. فطوال ثمانية أعوام، لم يظهر الفريق إلا في ثلاثة عزاءات: عزاء فتحي سرور، عزاء سمير صبري، وعزاء ثالث لا أذكره. كأنما كانت الصفقة أن يعود، بشرط أن لا يُرى… أن يبقى اسمه كتمثالٍ منسيّ في ركن معتم من القاعة.

لم يكن هذا النفي الرمزي إلا امتدادًا لما سبق عودته. ففي نوفمبر ٢٠١٧، وبعد أن أعلن من منفاه في أبوظبي عزمه الترشح لانتخابات الرئاسة المصرية عام ٢٠١٨، انتشرت شائعات منظمة تزعم إصابته بالزهايمر و”الخرف السياسي”، في حملة ممنهجة لإبطال مفعول الرجل سياسيًا. كانت تلك الحملة استباقًا للعودة، وإغلاقًا للنافذة قبل أن تُفتح.

بلغني حينها من أصدقاء مشتركين، بيني وبينه، أن الرجل كان يتهيأ لمغادرة الإمارات إلى فرنسا، حيث سبقت إحدى بناته لترتيب الإقامة، وأنه كان على وشك ركوب الطائرة المتجهة إلى باريس، حين جرى منعه بشكل مفاجئ في مطار دبي، قبل أن يُرحّل في طائرة خاصة إلى القاهرة.

ومنذ ذلك الحين، لم نره في الحياة العامة، إلا كظلّ يتجوّل في الهامش، لا يهمس ولا يتكلم.

وخلال الأيام الماضية، وبينما تواترت أنباء الوفاة، نشر المستشار هشام ناجل، المتحدث باسم الفريق، نفيًا للخبر عبر حسابه الشخصي، مؤكداً أن شفيق ما زال حيًّا. لكن في الوقت نفسه، أكدت مصادر مطلعة أنه تعرض لوعكة صحية خطيرة، استدعت استدعاء سيارة إسعاف، ونقله إلى المستشفى في حالة حرجة.

شائعه وفاته ذكرتني بمقولة له في أحد حواراته التلفزيونية التي أجريت معه عندما قال: “أنا قتلت وقتلت مرات عديدة” كما ذكرتني شائعه عيد الفطر الأخيرة بشائعه مشابهة تم تسريبها في الاعلام المصري في عيد فطر ٢٠٢٠ عن وفاه أيمن نور بعد أزمة قلبية مفاجئة.. كنت وقتها اقضي أجازه العيد مع زوجتي دعاء وعدد من الاصدقاء بمدينة بورصه!! وعرفت بعدها أن جهه ما تلقت تقريرا من شخص مكلف بمراقبتي أفاد تقريره بعدم ظهوري في منزلي أو مكتبي لأيام (!!)

عرفت الفريق أحمد شفيق حين كان وزيرًا للطيران المدني، وأنا نائب معارض في برلمان مصر. اختلفنا مرارًا، لكنني لم أره يومًا متجاوزًا، ولا غليظًا. كان مهذبًا (ابن ناس طيبين) حتى في رده على الاستجوابات والطلبات الرقابية، بخلاف وزراءٍ اعتادوا الصراخ والازدراء. ومن هنا، أطلقت عليه لقب: “الفريق الرقيق”.

لم أُسانده في انتخابات ٢٠١٢، لا لموقفٍ شخصي، بل لموقفٍ مبدئي. كان يمثل امتدادًا أنيقًا، لا مباشِرًا، لنظام مبارك الذي قامت الثورة عليه، وهو بشكل شخصي النظام الذي سجنني، وحاصر حزبي، وشوّهني بشكل ممنهج. لكن شفيق شخصيا ظل رغم ذلك رجلًا يحترم خصومه، لا يهوّن منهم. ولا يتسفل عليهم

نعم… لم يكن سياسيًا فذًا، ولا خطيبًا جماهيريًا، لكنه كان إداريًا محترفًا، بسجل لا يقطر دمًا، ولا يُثير ريبة. وقد يكون هذا هو بالضبط ما لم يُغفر له من مدرسة تؤمن بالمسار الآخر.

وحين أعلن شفيق ترشحه مجددًا عام ٢٠١٧، من الخارج، رأى فيه النظام تهديدًا صامتًا. ليس لأنه قوي، بل لأنه من النظام نفسه، ويعرف تفاصيله. ولأنهم يعرفونه، قرروا أن يُطفئوا صوته قبل أن يصل.

وهكذا، أُعيد إلى مصر دون رغبة، وحُرم من التعبير، وعاش كغائبٍ حاضر، أو حاضرٍ غائب.

مات شفيق للمرة الثانية… مات بعد أن مات سياسيًا، حين قررت الدولة أن تمحو أثره وذكره، دون أن تصدر حكمًا، وأن تسجنه، دون أن تفتح له باب الزنزانة.

والمأساة أن ما حدث مع أحمد شفيق لم يكن استثناءً، بل نمطًا، متكررًا بأشكال مختلفة:

تشويه السمعة – كما حدث معي في ٢٠٠٥، ومع كل مرشح حقيقي، من حازم صلاح أبو إسماعيل، إلى عبد المنعم أبو الفتوح، إلى أحمد الطنطاوي في ٢٠٢٤.

الاعتقال: كما حدث معي ٢٠٠٥، ومع الدكتور محمد مرسي ٢٠١٣، وأبو الفتوح وأبو إسماعيل – و كما حدث مع الفريق سامي عنان، والعميد أحمد قنصوه. ٢٠١٨، وأحمد الطنطاوي ٢٠٢٤

النفي: – كما عشتُه بنفسي منذ ٢٠١٣ وحتى اليوم.

القتل بلا دم: – كما جرى مع الرئيس الراحل محمد مرسي.

وأخيرًا: الإلغاء من الحياة – كما جرى مع شفيق. وعنان وقنصوه وغيرهم…

الكرسي في مصر لم يعد فقط مغلقًا، ومحرما، بل أصبح ملعونًا. لا يقترب منه أحد إلا ودُفع ثمنًا باهظًا من عمره، أو حريته، أو صوته، أو كرامته.

في ميزان الحكاية، قد لا يكون أحمد شفيق بطلاً، لكنه لم يكن شريرًا. كان طيّارًا أُجبر على تغيير مسار الرحلة، ثم أُجبر على أن يهبط، دون إذن بالإقلاع من جديد.

شفيق نصف حي، يتنفس بصمتٍ يليق بمن صمت طويلًا… ومات في قلبه الحلم، بأن يكون في هذا الوطن رجلٌ يُمارس العمل العام، دون أن يُقصى أو يُنسى.

أما أنا… فاليوم وكل يوم تتوافر لي إجابات شافية وجديدة على السؤال المتكرر: “لماذا لا تعود لمصر؟!”

أقف اليوم -وكل يوم- على رصيف الذكرى، أنظر إلى مشهد طائرة هبطت… ثم بقيت على المدرج، دون إذن بالتحرك. ليضع لها سلم أمن لهبوط الركاب…

الفريق أحمد شفيق: عاد ولم يعد. فإن لم يمت بجسده، فقد مات ظلّه.

تلك حكاية الموت البطيء… حين لا يُغتال الجسد، بل تُغتال السيرة، ويُمحى الاسم. وحين يكون أقسى أنواع الموت، أن تموت حيًّا… لأنك فقط، فكّرت يوما، أن تجلس على المقعد المحرّم.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى