
أحيانًا، لا يكون المستقبل سطرًا في تقرير استخباراتي، ولا رقمًا في نشرة اقتصادية، ولا حتى نبوءة في خطاب سياسي. أحيانًا، يأتي المستقبل كصورةٍ خاطفة في مقال، أو همسةٍ مُبهمة في شهادة كاتبٍ زار موقعًا وشعر بأنه قد خرج من الزمن الذي يعرفه إلى زمنٍ لم يبدأ بعد.
هذا ما فعله توماس فريدمان، أحد أبرز الأقلام الأمريكية، في مقاله الأخير بصحيفة نيويورك تايمز، حين كتب من شنغهاي: “رأيتُ المستقبل للتو… ولم يكن في أمريكا”. لم تكن العبارة مجرد عنوان، بل كانت جرس إنذار يُقرع داخل الإمبراطورية الأمريكية ذاتها، ويُسمع صداه في كل العواصم التي اعتادت النظر إلى واشنطن كمركزٍ للقرار والتقدّم.
المقال، للوهلة الأولى، عرضٌ لزيارة فريدمان إلى مقر شركة هواوي العملاق، وفي جوهره شهادةٌ على تغيّر موقع القوة في العالم. من أرضٍ كانت تُصدّر التكنولوجيا إلى العالم، إلى أخرى بدأت تُنتج المستقبل دون أن تنتظر مباركة الغرب.
من قلب الصين، عاصمة الزمن القادم، ينقل لنا فريدمان صورة المقر الجديد الذي شيدته هواوي، على مساحة 225 ملعب كرة قدم، ليس كمصنع أو مقر إداري، بل كحاضنة أفكار، مدينة ذكية تجمع آلاف العلماء والمهندسين، في مشهد يكاد يُشبه الخيال العلمي.
ليست المسألة فقط في المباني ولا في القُدرات، بل في الروح التي تُدار بها المعركة. الصين، التي سعت أمريكا لمحاصرتها بالعقوبات منذ عام 2019، لم تردّ بالشكوى، بل بالبحث والتطوير، بالابتكار لا بالانكسار، وبصناعة مستقبل بديل لاحتكار واشنطن للتكنولوجيا.
تطلق هواوي هواتفها الذكية، ومعدّاتها المتقدمة، ونظام تشغيلها الخاص، وتُركّب مئات الآلاف من شواحن السيارات الكهربائية، في وقت لا يزال فيه الكونغرس الأمريكي يراوغ في تمرير التمويل لمحطات الشحن. في الوقت الذي ينشغل فيه الرئيس ترامب بقوانين التنافس الرياضي للمتغيرين جنسيًا، تنشغل الصين بتصميم مصانع ذاتية التشغيل قائمة على الذكاء الاصطناعي.
المفارقة التي يُسلّط عليها فريدمان الضوء – دون أن يُعلنها صراحة – هي أننا أمام لحظة فقدت فيها أمريكا مركزية المستقبل، لا بسبب نهوض الصين فقط، بل نتيجة سقوط المشروع الأمريكي في فخ النرجسية السياسية، وانفصاله عن العقلانية الاستراتيجية.
أهمية هذا المقال للعرب تتجاوز بكثير ما يظهر على السطح. إننا، نحن أبناء هذه المنطقة التي ظلّت عالقة في شقوق الصراعات الكبرى، لا نستطيع أن نتجاهل ما يلوح في الأفق: أن العالم يعيد توزيع أوراقه، وأن المهيمنين بالأمس لم يعودوا وحدهم في المشهد. إن مستقبل أمريكا لم يعد مضمونًا، ولا التبعية لها قدرًا.
وهنا، تبرز الحاجة لرؤية عربية جديدة، ترى ما بعد واشنطن، وما بعد بكين. لا رؤية تصطف مع قطب ضد آخر، بل رؤية تبحث عن استقلالٍ حقيقي، عن استثمارٍ في العقل والتعليم والبحث، عن انخراط واعٍ في صناعة عالم متعدد لا تنفرد فيه دولة واحدة برسم مصائر الجميع.
هذا المقال، الذي أضعه أمام القارئ العربي، ليس فقط وثيقة من داخل قلب أمريكا القلقة، بل مرآة علينا أن نتأمل فيها وجه منطقتنا ومستقبلها. إننا نعيش في عصرٍ لم تعد فيه الأساطير السياسية تقنع الشعوب، بل تُقاس الأمم بمدى قدرتها على قراءة اللحظة، واستشراف ما بعدها، لا بالبكاء على أطلال النفوذ المنهار.
لهذا، فإن قراءة هذا النص ليست ترفًا، بل ضرورة. ضرورة أن نفهم العالم وهو يتغيّر، وأن ندرك أن الغد لن ينتظر أحدًا، وأن الشعوب التي لا تُشارك في صناعته، ستدفع ثمنه، صمتًا وتهميشًا وفواتًا…