مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: دمعة على قبر أمي تروي حكاية الفراق

عيد الأم يأتي كل عام، محمّلاً بمشاعر الحنين والحب، في هذا اليوم يحتفل الجميع بأمهاتهم، يعبرون عن حبهم لهن بكلمات دافئة وقلوب مملوءة بالعطاء.

ولكن بالنسبة لي، هذا اليوم يختلف تمامًا. هو يوم يشوبه الحزن والأسى، يوم أزور فيه قبر أمي لأضع دمعة على ترابها، تلك الدمعة التي لا تستطيع أن تعبّر عن حجم الفقدان الذي أشعر به منذ رحيلها.

كنت في طفولتي كغيري من الأطفال أحفظ نشيد “أمي أمي .. ما أغلاها”، وكنت أردد الكلمات ببراءة الأطفال، دون أن أدرك عمقها الحقيقي أو أستوعب مدى تأثيرها في حياتي.

“هي في قلبي لا أنساها، أنا أرضيها، أنا أهواها”، كانت كلمات تخرج من فمي تلقائيًا، لكنها لم تلامس إحساسي حينها.

كنت أعتقد أن تلك المشاعر مجرد عبارات عابرة، ولكنني أدركت مع الزمن، ومع فقدان أمي، أن هذا النشيد لم يكن مجرد كلمات بريئة، بل كان نبضًا يعبر عن شيء أعظم وأعمق مما كنت أتخيل.

عندما أفكر في أمي الآن، أفكر في تلك اللحظات الصغيرة التي كانت تمر أمامي دون أن ألتفت إليها كثيرًا. نظرتها الحنونة، لمساتها الدافئة، تلك الضحكة الخافتة التي كانت تملأ البيت بالبهجة.

كل هذه التفاصيل كانت جزءًا من يومي العادي، لكنها تحولت بعد رحيلها إلى ذكريات تنبض في ذهني بلا توقف. أجد نفسي في عيد الأم الآن، أقف أمام قبرها، وأسترجع تلك الذكريات التي كانت تمر عليّ دون أن أشعر بقيمتها.

الأم ليست مجرد شخص؛ إنها عالم كامل. عالم من الحب غير المشروط، من الحنان الذي لا ينفد، من التضحية المستمرة دون انتظار أي مقابل.

أمي لم تكن مجرد سيدة تقف بجانبي أو تهتم بي؛ كانت مصدر قوتي وعزيمتي، كانت الشخص الذي يعطيني الأمان والطمأنينة في مواجهة الحياة.

بعد رحيلها، شعرت وكأنني فقدت ليس فقط شخصًا، بل جزءًا من نفسي. هذا الفراغ الذي تركته في حياتي لا يمكن لأي شيء أن يملأه.

في عيد الأم، أصبح الوقت بالنسبة لي مقترنًا بالشعور بالأسى والشجن. أرى الناس يحتفلون بأمهاتهم، يعبرون عن مشاعرهم الجياشة، بينما أقف أمام قبر أمي، وأبحث في ذاكرتي عن صوتها الذي طالما أراحني، عن ضحكتها التي كانت تمسح عني كل همّ.

أجد نفسي عاجزًا عن إيجاد كلمات تعبر عن مدى افتقادي لها، عن تلك اللحظة التي أدركت فيها أنني لم أعد قادرًا على سماع صوتها مرة أخرى. الموت هو الحتمية التي تدفعنا لفهم قيمة من حولنا، ولكنه يأتي دائمًا متأخرًا جدًا.

حين أفكر في أمي الآن، لا أفكر فقط في تلك اللحظات الجميلة التي شاركتني فيها حياتي، بل أفكر في كل ما لم أفعله.

في كل كلمة حب كان بإمكاني أن أقولها ولم أقلها، في كل مرة كان بإمكاني أن أكون أكثر اهتمامًا وحنانًا. أندم على كل فرصة ضاعت مني لأعبّر لها عن مدى تقديري وحبي. لكنها، ككل الأمهات، كانت تعرف ما في قلبي، كانت تعرف ما لا أقوله.

ورغم رحيلها، إلا أن حبها يبقى متجذرًا في قلبي. الحب الذي تمنحه الأم لأبنائها لا يموت بموتها؛ إنه يعيش فينا، يرافقنا في كل خطوة نتخذها، في كل قرار نأخذه.

أمي كانت تمثل لي هذا الحب النقي الصافي الذي لا يعرف حدودًا. حتى بعد وفاتها، لا تزال ذكراها تلهمني وتدفعني للأمام. إنها القوة التي تجعلني أستطيع مواصلة الحياة رغم كل الصعوبات.

اليوم، وأنا أقف أمام قبرها، أدرك أنني لن أستطيع تعويضها عن كل ما فاتها من حياتي، لكنني أحملها معي في كل لحظة.

كل ما أفعله الآن هو نوع من الوفاء لذاك الحب الذي أعطته لي دون قيد أو شرط. أعلم أن حب الأم لا ينتهي برحيلها، بل يستمر ليعيش في قلوبنا وعقولنا إلى الأبد.

ربما تكون الدموع التي أذرفها اليوم على قبرها غير كافية للتعبير عن مدى الحزن الذي أشعر به، ولكنها الشيء الوحيد الذي أستطيع فعله في هذا اليوم. هذه الدمعة هي اعتراف صغير بحجم الحب الذي كان يجمعنا، وبمدى افتقادي لها.

رحمكِ الله يا أمي، وغفر لكِ. ستبقين في قلبي دائمًا، تلك القوة التي أستمد منها عزيمتي، والابتسامة التي أبحث عنها في لحظات الضعف.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى