مقالات ورأى

الدكتور أيمن نور يكتب: 16 مارس في ذكرى كمال جنبلاط .. لا تظلموا الدروز ولا تخونوهم

ورقة في مذكّراتي
16 مارس في ذكرى كمال جنبلاط
لا تظلموا الدروز ولا تخونوهم


قبل صيف 2013، لم تكن معرفتي بـ الطائفة الدرزية تتجاوز بعض العناوين الباهتة التي لا تعكس عمق هذا المكوّن العربي الأصيل.

لم أكن أعلم أنني سأقضي أيامًا في حضن الجبل، هناك حيث تُروى الحكايات وتُسقى الجذور بماء الكرامة، وحيث سأتعرّف على فكرٍ صنعه عقلٌ متقد، وقلبٌ نابض بـ العروبة، وروحٌ محلّقة فوق الطوائف والحدود

في أغسطس من ذلك العام، هربتُ من قيظ بيروت إلى هواء عاليه العليل، مستأجرًا فيلا تطلّ من قمتها على تاريخ ممتدّ في ذاكرة الجبل، وكان مالكها من إحدى العائلات الدرزية الشهيرة. لم تكن الفيلا مؤثثة فقط بالأثاث الخشبي العتيق، بل زُيّنت بمكتبة عامرة بمؤلفات كمال جنبلاط، وكأنّ القدر شاء أن أجد نفسي أمام إرث رجلٍ لم يكن مجرد زعيمٍ حزبي، بل كان مدرسة فكرية، جمعت بين الفلسفة و الإنسانية و السياسة برؤية لم تُكرر.

كنت متردّدًا في البداية، فالعقل أسير ما يجهل، والخوف من الغريب طبيعةٌ بشرية، غير أنّني وجدتُ نفسي مدفوعًا إلى صفحات تحمل فكرًا يسمو فوق الطوائف، ويحتضن القيم الإنسانية في أعمق معانيها. انتقلتُ بين كتبه، من “أدب الحياة” إلى “الممارسة السياسية” ثم “السلام والمحبة”، وكان كل كتابٍ منها يمحو سحابة الجهل، ويكشف لي عن رجلٍ رأى العالم بعيون الفلاسفة، وحمل القضية الفلسطينية بيد المناضلين، وسار في دروب السياسة بروح الحكيم.

كمال جنبلاط لم يكن مجرد اسمٍ في سجلّ قادة، بل كان عنوانًا لنضالٍ لا يعرف الانحناء، حتى لحظة استشهاده في مثل هذا اليوم 16 مارس 1977، وفي أوج الحرب الأهلية اللبنانية، حين ارتفعت بندقية الغدر لتغلق صفحة جسده، لكنها فتحت كتاب أسطورته. لم يكن اغتياله جريمةً عابرة، بل كان قرارًا اتُّخذ في تل أبيب، ونُفّذ بأيادٍ تتبع نظام الأسد، عقابًا له على رفضه مشروعًا إسرائيليًا لإقامة دولة درزية تمتدّ من الشوف إلى جبل العرب، مشروعٌ قاومه جنبلاط بكل ما أوتي من عزيمةٍ وعروبةٍ صلبة.

اليوم، وبعد 47 عامًا على استشهاده، يطلّ المشروع ذاته برأسه مستغلًا الفوضى السورية، محاولًا أن يجد له موطئ قدم في دروبٍ لم تعرف يومًا إلا طريق العزة. لكنني على يقينٍ أن أبناء سلطان باشا الأطرش في السويداء، وأحفاد كمال جنبلاط في لبنان، سيقفون سدًا منيعًا أمام هذه المحاولات، حاملين رايةً خطّ عليها جنبلاط بدمه: ” فلسطين قضيتنا، و العروبة هويتنا”.

إنّ اغتيال كمال جنبلاط كان اغتيالًا لفكرة، لحلمٍ بـ وطن عربي متحرر من الطائفية و الاحتلال، ورغم ذلك، فإنّ مدرسته الفكرية لم تسقط بسقوطه، ولم تهزمها تلك المشاهد المؤسفة لبعض مشايخ الدروز في زيارةٍ مشبوهة لإسرائيل.

علينا أن نفهم السياق قبل إطلاق الأحكام، فـ الدروز في سوريا ليست كتلةً صمّاء، بل تتوزّع بين ثلاث مرجعيات متساوية الصلاحيات: (الحناوي – الجربوع – الهجري). وبينما يقف الحناوي و الجربوع إلى جانب النظام السوري الجديد، خرج الهجري عن هذا الاصطفاف، مستندًا إلى حمايةٍ إسرائيلية وتحريضٍ مكشوف، لكن هذا الموقف لا يمثل إلا 1% من 3% هي نسبة الدروز في سوريا.

زيارة بعض أتباع الهجري إلى إسرائيل موقفٌ مشينٌ دون شك، لكنه لا يعبّر عن الدروز عامة، ولا حتى عن دروز سوريا و دروز لبنان، الذين ظلّت غالبيتهم الساحقة على العهد مع أوطانهم، ورفضوا كل مشاريع التقسيم و الاستقواء بالعدو.

ويكفي موقف وليد جنبلاط، نجل الزعيم الشهيد، الذي كان أوّل من أيّد السلطة الجديدة في سوريا، رغم أنه لم يكن يومًا، ولا كان والده، حليفًا لإسرائيل أو مستقويًا بها.

في ذكرى استشهاده، يبقى كمال جنبلاط رمزًا للفكر الذي لا يموت، والروح التي لا تُغتال، ويبقى الدروز جزءًا أصيلًا من النسيج العربي، ظلمهم الجهل، وخانهم البعض، لكنهم ظلّوا أوفياء للأرض، رافضين أن يكونوا ورقةً في لعبة الأمم.

رحم الله كمال جنبلاط، المثقف الكبير، الزعيم الذي كان أكبر من طائفته، و القائد الذي كان بحجم أمة و وطن.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى