مصر

حسن نافعة يكتب: خيارات إيران في المرحلة المقبلة

تصاعدت أخيراً ضغوط الولايات المتحدة على إيران. فوقّع ترامب بعد فترة قصيرة من تولّيه مقاليد السلطة مذكّرةً لإعادة نظام “العقوبات القصوى”، الذي فرضه على إيران خلال فترة ولايته الأولى، لكن بصورة أكثر قسوة هذه المرّة، فشمل النظام المطبق حالياً إلغاء إعفاءٍ كان يتيح للعراق استيراد الغاز من إيران، وسعى، في الوقت نفسه، إلى إحكام سياسة “التصفير الشامل للنفط الإيراني”، من خلال سدّ ثغرات قيل إنها مكّنت إيران من التهرّب من العقوبات المالية، أو ساعدتها على تصدير النفط للدول والمنظمات الحليفة. وفي مقابلة أجراها مع شبكة فوكس الإخبارية، بداية الأسبوع الماضي، كشف ترامب أنه بعث رسالةً إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، قال فيها: “آمل أن تتفاوضوا معنا من جديد لأن تدخّلنا عسكرياً ستترتب عليه أشياء مروعة”، وهي رسالةٌ تحمل معنى مفاده أن الولايات المتحدة لن تكتفي بنظام “العقوبات القصوى” وحده، مهما بلغت قسوته أو درجة إحكامه، وإنما يمكن أن تلجأ أيضاً إلى “الوسائل العسكرية القصوى” إذا رفضت إيران الدعوة الموجّهة إليها للدخول في عملية تفاوضية جديدة. وفي خطوة تصعيدية إضافية، تقدّمت الولايات المتحدة (الأربعاء الماضي)، ومعها خمسة من حلفائها (المملكة المتحدة وفرنسا واليونان وكوريا الجنوبية وبنما)، بطلب عقد جلسةٍ مغلقةٍ لمجلس الأمن لبحث المخاطر الناجمة عن “زيادة إيران مخزونها من اليورانيوم المخصّب لدرجة قريبة من المستوى المطلوب لصنع أسلحة نووية”.

لم ينتظر المرشد الإيراني تسلّم رسالة التهديد الأميركية رسمياً، وإنما ردّ على تصريحات ترامب الإعلامية بتصريحات مضادّة، قال فيها: “إن دعوة الرئيس ترامب إلى التفاوض مع إيران محاولة لخداع الرأي العام، فقد سبق لإيران أن تفاوضت مع مجموعة 5+1، ومنها الولايات المتحدة، وتوصلّت إلى اتفاق وقّعه الجميع، لكن الولايات المتحدة هي وحدها التي انسحبت منه، وبالتالي لا نتوقّع الحصول على أيّ فائدة من إعادة التفاوض معها من جديد. وفي جميع الأحوال فلن يستطيع أحد إجبار إيران على التفاوض”، وبعد أن سلّم المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، أنور قرقاش، رسالة ترامب إلى وزير خارجية إيران، عباس عراقجي، ردّ عليها في تصريحات علنية أيضاً الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان: “لن تتفاوض إيران تحت التهديد، ولتفعل الولايات المتحدة ما تريد”.

تدرك إيران جيّداً أن الخناق بدأ يضيق حولها، فالوضع الدولي يختلف حالياً كثيراً عمّا كان سائداً عند إبرام اتفاق “5+1” (2015). صحيحٌ أن هذا الاتفاق قلّص، إلى حدّ ما، من قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم بمعدّلاتٍ وبكمّياتٍ تمكّنها من تصنيع السلاح النووي، لكنّه أتاح لها، في الوقت نفسه، مجالاً واسعاً لاكتساب المعرفة النووية وتوظيفها في مجالات عديدة، ساعدتها في تطوير قدراتها العلمية والتكنولوجية، بما في ذلك ميادين التصنيع العسكري وعلوم الفضاء. ولأن الولايات المتحدة هي التي قرّرت الانسحاب منه عام 2018، فقد كان من الطبيعي أن تردّ إيران بالتحلّل من بعض الالتزامات الواقعة عليها بموجبه، خصوصاً ما يتعلّق منها بنِسَب تخصيب اليورانيوم، ما جعلها تتحوّل دولةَ “عتبة نووية”، وهو ما ضاعف قلق الدول الغربية بصفة عامّة، وإسرائيل بصفة خاصّة، على الرغم من أنها ظلّت ملتزمةً باتفاقية حظر انتشار السلاح النووي، وبما يترتّب على ذلك من قبول إجراءات تفتيش مفاعلاتها النووية من الوكالة الدولية.

غير أن إيران تجد نفسها اليوم أمام معضلةٍ كبيرة، لا تدري كيف تواجهها. فهي تدرك جيّداً أن البنود المدرجة في جدول أعمال المفاوضات الجديدة، التي تصرّ الولايات المتحدة على الدخول فيها، لن يقتصر، هذه المرّة، على موضوع البرنامج النووي، وإنما سيمتدّ ليشمل موضوعين آخرين على جانب كبير من الأهمية. الأول برنامج إيران التسليحي كلياً، خصوصاً ما يتّصل منه بتصنيع المسيّرات والصواريخ الباليستية، والثاني نفوذ إيران الإقليمي، خصوصاً ما يتّصل منه بالعلاقات التي تربط إيران بالفاعلين من غير الدول في المنطقة، فبالنسبة لبند البرنامج التسليحي، تتوقّع إيران أن يكون الهدف الرئيس من إدراجه في جدول أعمال المفاوضات الجديدة مناقشة إمكانية تقليصه، والضغط عليها لتقليصه إلى المستوى الذي لا يشكّل أيَّ تهديد لأمن إسرائيل، أمّا بالنسبة لبند النفوذ الإقليمي فتتوقّع إيران أن يكون الهدف الرئيس من إدراجه في جدول أعمال هذه المفاوضات هو إلزامها بعدم التعامل مع المنظّمات المُدرَجة في قوائم الإرهاب الأميركية، والمقصود هنا حركتا حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة، وحزب الله في لبنان، وجماعة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن، والتعهّد بعدم مدّ هذه المنظّمات بالمال أو بالسلاح، ولأن هذه “المطالب” تنطوي على مساس واضح بالسيادة، فمن الطبيعي أن ترفض إيران من حيث المبدأ أن يفرض عليها الدخول في مفاوضات تدور حول موضوعات يعتبرها القانون الدولي من صميم شؤونها الداخلية.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الرؤية الأميركية الحالية لكيفية التعامل مع إيران تختلف عن الرؤية الإسرائيلية، رغم تطابقهما حول ضرورة استخدام السبل المتاحة كلّها لمنع إيران من تصنيع السلاح النووي، ولعرقلة جهودها الرامية لتصنيع أسلحة عالية التقنية، ولحملها على قطع صلاتها بالمنظمات المناوئة لإسرائيل. فبينما يفضّل ترامب استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية وأدوات القوة الناعمة وسائلَ للوصول إلى هذه الأهداف، من دون استبعاد الخيار العسكري ملاذاً أخيراً، يرى نتنياهو أن العقوبات الاقتصادية وأدوات القوة الناعمة لن تجدي نفعاً، وأن استخدام القوة العسكرية هو السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف المرجوة، فنتنياهو يعتقد أن النظام الإيراني نفسه هو مصدر التهديد الرئيس لأمن إسرائيل، ومن ثمّ ينبغي العمل على إسقاطه. ولأنه (النظام الإيراني) لن يسقط إلا بعد ضربة عسكرية ساحقة، تفتح الطريق أمام المعارضة الداخلية في إيران للتحرّك، يعتقد نتنياهو أن الوقت قد حان للإقدام على هذه الخطوة، خصوصاً بعد التغييرات العميقة التي طرأت على موازين القوى الإقليمية عقب سقوط نظام بشّار الأسد، وتفكّك وانهيار “محور المقاومة”، وفقدان إيران لكامل منظومة الدفاع الجوي لديها بعد الضربة الكبيرة التي وجّهها لها سلاح الطيران الإسرائيلي يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وشاركت فيها مئة طائرة على الأقلّ، وهي الضربة التي لم تتمكّن إيران من الردّ عليها، لذا ليس من المُستبعَد أن تشهد الأشهر القليلة المقبلة محاولات حثيثة من جانب نتنياهو لجرّ الولايات المتحدة إلى توجيه ضربةٍ عسكرية لإيران، أو على الأقلّ لتمكينه من الحصول على المعدّات العسكرية اللازمة لتوجيه هذه الضربة، بعد منحه الضوء الأخضر للقيام بها.

في سياق كهذا، تبدو خيارات إيران محدودةً، فهي إن رفضت التفاوض مع الولايات المتحدة من حيث المبدأ ستبدو كأنّها تخفي شيئاً خطيراً يتعلّق ببرنامجها النووي، ما قد يسهّل مهمّة خصومها في تحميلها كامل المسؤولية عمّا قد يحدث لها، ويمهّد الطريق أمامهم للقيام بعمل عسكري كبير ضدّها، وإن وافقت على التفاوض تحت ضغط التهديدات الأميركية والإسرائيلية، فسوف تخاطر بالانزلاق نحو مصيدةٍ قد لا تستطيع الفكاك منها. وللخروج من هذا المأزق، يصبح الخيار العقلاني الوحيد المتاح أمامها القبول بالتفاوض من حيث المبدأ، وحصره في موضوع البرنامج النووي، لأنه الموضوع الوحيد الذي يرتّب على إيران مسؤوليةً دوليةً تلزمها بعدم امتلاك أو تصنيع السلاح النووي، نظراً إلى أنها أحد الأطراف الموقّعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. وفي هذه الحالة، يمكن أن ينحصر النقاش في معرفة ما إذا كانت إيران قد خالفت التزاماتها بموجب معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، وسيكون على إيران أن تركّز جهودها في إثبات الطابع السلمي لبرنامجها النووي، وهو أمرٌ ميسورٌ بالنظر إلى وجود فتوى دينية إيرانية تحرّم امتلاك إيران السلاح النووي. وعلى أيّ حال، سوف تستغرق الإجراءات اللازمة للتيقّن من هذه الحقيقة وقتاً طويلاً تحتاجه إيران لامتصاص شحنة التوتّر الحالية، ولإعادة ترتيب أوراقها في المنطقة. وفي حال وصول المفاوضات مرحلةً متقدّمةً تتطلّب البحث عن آلية للتخلّص من كمّية اليورانيوم المخصّب بنسبٍ عاليةٍ تسمح باستخدامه في إنتاج السلاح النووي، سيكون بمقدور إيران أن تساوم وأن تطلب الثمن في صورة ضمانات تجبر الأطراف كلّها، التي ستوقّع الترتيبات الجديدة، الالتزام بما تعهّدت به، وعدم السماح بتكرار ما حدث من جانب ترامب إبّان ولايته الأولى.

بالتوازي مع هذا الخيار، يُتوقّع أن تهتم إيران بالعمل على إجهاض المحاولات الرامية إلى التحرّش بها، بالاعتماد على تطوير قدراتها الذاتية، من ناحية، وبتقوية علاقاتها مع دول الجوار الإقليمي، من ناحية ثانية، مع تقديم الحوافز كافّة التي تشجعها على رفض التعاون مع إسرائيل، وتبصيرها بالمخاطر التي قد تتعرّض لها إذا ما قرّرت مدّ يد العون لهذه الدولة المارقة، والعمل أخيراً على تفعيل (وتطوير) علاقاتها الاستراتيجية بكلّ من الصين وروسيا، من ناحية ثالثة. ولأن دول مجلس التعاون الخليجي ستكون هي الضحية الأولى لأيّ ضربة عسكرية كبرى توجّه لإيران، عليها أن تدرك أن مشكلات المنطقة كلّها باتت متداخلةً ومتشابكةً، وأن تحقيق الأمن والاستقرار الجماعي لهذه المنطقة يتوقّف أولاً وأخيراً على حلّ القضية الفلسطينية، بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى