مقالات ورأى

قطب العربي يكتب : معضلة الإسلاميين في الدولة الوطنية

“الدولة الوطنية في العالم العربي غير مُهيّأة -بطبيعة تصميمها- لأن يحكمها الإسلاميون، هندستها الذاتية تقوم على استبعادهم من الحكم. المُتاح في أفضل الظروف هو احتواؤهم عبر السماح لهم بمكان معلوم في صفوف المعارضة” تلك الكلمات للكاتب الصحفي أنور الهواري على حسابه الشخصي في موقع الفيسبوك (26 فبراير/شباط 2025)، وهي تعبير عن اقتناع قطاع واسع من النخب المصرية والعربية، لكنها حتما لا تمثل غالبية الشعوب.

وقد علقت على منشوره في حينه بأن ما كتبه هو خلط بين الدولة الاستبدادية التي تقصر الحكم فيها على فئة معروفة لا ينازعها غيرها، والدولة الوطنية التي هي ملك لكل أبنائها من كل التيارات.

ونظرا إلى أهمية الفكرة التي تحكم رؤى الكثيرين فمن الواجب الاشتباك الإيجابي معها، بغية الوصول إلى حل، وليس تسجيل نقاط، والبداية هي تعريف الدولة الوطنية، ودون الإغراق في شروحات فإن المعنى البسيط للدولة الوطنية أنها دولة لكل مواطنيها، دون تمييز بينهم على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو المستوى الاجتماعي أو المذهب، وهذا ما تضمنته كل الدساتير الحديثة بما فيها الدساتير المصرية بدءا من دستور 1923 حتى الآن، هذا يعني بمفهوم المخالفة أن الدولة التي تحرم جزءا من مواطنيها من حقوقهم هي دولة غير وطنية.

دولة وطنية أم استبدادية؟

ادعاء أن الدول الوطنية غير مهيّأة بطبيعتها لأن يحكمها الإسلاميون، هو طعن في فكرة الدولة الوطنية وفكرة المواطنة، وهو قول يعكس فكرا مشوشا عن الدولة الوطنية، وهو خلط واضح بينها وبين الدولة الاستبدادية (سواء كانت عسكرية أو وراثية)، فهذه الأخيرة هي التي لا تسمح لأي قوى شعبية منتخبة بحكمها سواء كانت قوى إسلامية أو علمانية، فلا يخرج الحكم فيها عن طبقة الجنرالات والنبلاء وإن استعانوا بموظفين مدنيين من رؤساء وزارات ووزراء ومحافظين ومديرين، لمساعدتهم في إدارة دولاب العمل في الدولة مع بقاء القرارات السيادية في أيدي الحكام الفعليين (الجنرالات والنبلاء).

في الدول الوطنية التي تحترم معنى المواطنة وصلت القوى الإسلامية إلى السلطة فعلا، وحكمت، وعادت إلى المعارضة، ثم عادت إلى الحكم، أو شاركت في الحكم، والنماذج واضحة في تركيا، وماليزيا، وإندونيسيا، أما دولنا العربية فهي لم تدخل عصر الدولة الوطنية الحديثة بعد، عراق صدام حسين، وسوريا الأسد، وليبيا القذافي، ويمن صالح، ومصر في ظل كل حكامها العسكريين يحملون صفة دولة وطنية، فهل هي حقا كذلك بالمفهوم الموضوعي للكلمة؟

معضلة تحتاج إلى حل

رغم تهافت الفكرة من الناحية الموضوعية، فإن معضلة الإسلاميين مع هذه الدول العربية ستظل قائمة ومتصاعدة، فلا الدول العربية الحالية في معظمها قبلت بحكم الإسلاميين، ولا الإسلاميون قدموا من ناحيتهم اجتهادات تخترق هذا الجدار الصلب.

ما دامت هذه المعضلة بدون حل فستبقى معها أزمات غياب الاستقرار، والانسداد السياسي، وهو ما ينتج أيضا وضعا اقتصاديا متأزما، فالاقتصاد لا ينمو ويزدهر إلا في أجواء استقرار كامل، وسيادة القانون، والحريات، ومن هنا يجب على أطراف المعادلة السياسية (السلطات الحاكمة، النخب العلمانية، النخب الإسلامية) التعاون في الوصول إلى صيغة مقبولة لحل هذه المعضلة، بما يسمح لجميع المواطنين أيا كانت انتماءاتهم بالمشاركة في حكم دولهم، بما يبدد مخاوف النخب الحاكمة أو المعارضة الأخرى، وهذا يستوجب حوارا جادا حول هذه المخاوف، ووضع القواعد الناظمة للتعامل معها، وآليات متابعة مدى الالتزام بها، والمعاقبة عند الخروج عليها من أي طرف.

الإدماج بديلا للإقصاء

الإسلاميون هم تيار أصيل ومتجذر في دولنا العربية، ولا يمكن لأي دولة أو سلطة مهما بلغت قوتها وجبروتها أن تقضي عليهم، حتى لو تمكنت من توجيه ضربات شديدة لهم، فإنهم يداوون جراحهم، ويعودون للمشهد مجددا، وبالتالي فليس من الحكمة استنزاف الجهود والموارد في معارك لتصفيتهم، بل الأجدى استثمار هذه الجهود والموارد في إدماجهم بشكل طبيعي في المشهد السياسي والثقافي والإعلامي، وساعتها سيكونون إضافة قوية لصالح الوطن وأمنه وازدهاره.

لا يصح أن تكون السلطات الحاكمة هي الخصم والحكم، بل ينبغي تأسيس مؤسسات قومية غير حزبية، تمثل ضمير المجتمع  تدير التنافس السياسي والثقافي والإعلامي، وتضع له القواعد الناظمة بعد حوار مجتمعي واسع، فتكون هناك هيئة وطنية مستقلة حقيقية للانتخابات لديها كل السلطات التي تمكنها من إدارة عملية انتخابية نزيهة بدءا من وضع قواعد الترشح وتسلّم أوراق المرشحين، وصولا إلى إعلان نتائج الانتخابات، وتمكين الفائزين من شغل مواقعهم، وتكون هناك هيئة وطنية مستقلة حقيقية لمكافحة الفساد تضع معايير تطبقها على الجميع سواء كانوا في الحكم أو المعارضة، وتكون هناك هيئة وطنية مستقلة حقيقية للإعلام تضع القواعد الناظمة للعمل الإعلامي وتطبقها بكل حيادية على الجميع، والأهم من كل ذلك أن يكون لدينا برلمان حقيقي معبر عن الإرادة الشعبية دون تزييف فهو القادر على ضبط البوصلة، وتصحيح الانحراف، واقتراح الحلول.

ما أحوجنا الآن إلى دولة وطنية بالمفهوم الحقيقي لها، دولة لكل أبنائها، لا تميز بينهم حسب دينهم وعرقهم واقتناعاتهم السياسية، هذه الدولة هي الطريق الأسلم نحو الاستقرار، والأمن والازدهار والخير الذي يعود على كل أبنائها، وبدونها ستبقى وتتزايد الأزمات في كل المجالات.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى