تقاريرحوارات وتحقيقات

رمضان في لبنان: مائدة الإفطار تتحول إلى معركة يومية ضد التضخم والفساد

في ظل الأزمات الاقتصادية المتفاقمة التي يعيشها لبنان، أصبح شهر رمضان الذي كان رمزًا للكرم والتضامن تحديًا كبيرًا للأسر اللبنانية.

مع ارتفاع الأسعار وتضاؤل القدرة الشرائية، تجد الأسر نفسها في صراع يومي لتأمين أبسط احتياجاتها الغذائية، مما يعكس عمق الأزمة المتجذرة في كل جوانب الحياة.

أوضح المواطن اللبناني علي يونس، وهو رب أسرة مكونة من خمسة أفراد، أن شهر رمضان الذي كان يرمز سابقًا إلى روحانية العطاء والتضامن، أصبح هذا العام تحديًا كبيرًا على الصعيد الاقتصادي.

يقول علي: “كانت موائد رمضان تجمع العائلة وتجعلنا نشعر بالخير والوفرة. ولكن اليوم، بسبب ارتفاع الأسعار، أصبح تأمين الطعام الأساسي صراعًا يوميًا. كنا نشتري اللحوم والخضار بكل سهولة، أما الآن، فنضطر إلى تقليل الكميات بشكل كبير أو الاستغناء عن بعض الأصناف نهائيًا. اللحوم أصبحت رفاهية لم نعد نستطيع تحمل تكلفتها. نحن مجبرون على تقديم الفتوش والشوربات فقط على المائدة”.

وأشار إلى أن هذا الوضع يزيد من الضغوط النفسية على الأسر ويؤثر بشكل سلبي على العلاقات الاجتماعية خلال الشهر الفضيل.

من جهته، أكد الدكتور نبيل حداد، الخبير الاقتصادي، أن الوضع الاقتصادي المتردي في لبنان ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج سنوات من الفساد وسوء الإدارة.

ويشير إلى أن “العدوان الإسرائيلي الأخير فاقم الأوضاع الاقتصادية الصعبة أصلًا. نحن أمام تضخم سنوي وصل إلى 45.24%، وهو ما يشكل ضغطًا هائلًا على الأسر. الناس لا تستطيع تحمل تكاليف الحياة الأساسية، فما بالك بمستلزمات رمضان؟”.

ويؤكد الدكتور حداد أن أي إجراءات إصلاحية يجب أن تركز على محاربة الفساد ووضع خطط شاملة لتحسين الأوضاع المعيشية، وإلا فإننا سنشهد انهيارًا اجتماعيًا كارثيًا في المستقبل القريب.

في السياق نفسه، أشار الناشط الاجتماعي كريم زيدان إلى أن الجمعيات الخيرية والمنظمات الأممية تلعب دورًا حاسمًا في تقديم المساعدات الغذائية، إلا أن هذا الحل يبقى مؤقتًا وغير كافٍ.

يقول كريم: “الجمعيات تقدم المساعدات الغذائية للأسر المحتاجة، ولكن هذه المساعدات لا تغطي سوى جزء بسيط من الاحتياجات. المشكلة أعمق بكثير وتتطلب حلولًا سياسية واقتصادية جذرية. الناس بحاجة إلى رواتب تكفيهم لتأمين احتياجاتهم الأساسية، وليس فقط الاعتماد على التبرعات”.

أما السيدة فاطمة حسن، وهي أم لثلاثة أطفال، فقد أكدت أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بشكل ملحوظ في رمضان الحالي مقارنة بالأعوام السابقة،

وقالت: “الأرز، السكر، والزيت .. جميعها مواد أساسية ولا يمكن الاستغناء عنها في رمضان، ولكن أسعارها أصبحت مرتفعة جدًا. نحن نعتمد على التقديمات الرمضانية من الجمعيات، ولكنها لا تكفي لأطعام أطفالي طوال الشهر. أضطر إلى تقليص الوجبات ومحاولة الاعتماد على أطعمة أرخص، وهو أمر لا يليق بشهر الكرم”.

من جهته، أشار رجل الأعمال وسام الأشقر إلى أن تأثير التضخم على الشركات الصغيرة والمتوسطة كان مدمرًا،

قائلاً: “التجار يعانون مثل المواطنين. ارتفاع تكاليف التشغيل والمواد الأولية جعلهم يرفعون الأسعار، وهذا أدى إلى تراجع الإقبال على الشراء. الأسواق فارغة والحركة التجارية شبه متوقفة. إذا استمر الوضع على هذا النحو، سنشهد إغلاق عدد كبير من المحال التجارية خلال الأشهر القليلة المقبلة”.

وأكدت الخبيرة في الشؤون الاجتماعية ليلى جابر أن تدهور الوضع الاقتصادي أدى إلى زيادة التوترات داخل الأسر اللبنانية،

مشيرة إلى أن “الأسر التي كانت قادرة على تأمين احتياجاتها دون مشاكل أصبحت اليوم تعاني من صعوبات كبيرة. هذا الضغط يولد مشاكل اجتماعية كبيرة، مثل ارتفاع نسب الطلاق والعنف الأسري، خصوصًا في ظل هذا الشهر الفضيل الذي كان من المفترض أن يكون فرصة للسلام الداخلي والتقارب العائلي”.

أشار المواطن محمد الأسمر، وهو شاب في الثلاثينات من العمر، إلى أن فقدانه لعمله زاد من الضغوط المالية على عائلته خلال رمضان.

يقول محمد: “كنت أعمل في شركة صغيرة وأتقاضى راتبًا بالكاد يكفي لتغطية احتياجاتي، ولكن الآن أصبحت عاطلًا عن العمل. رمضان هذا العام مختلف تمامًا؛ لا أستطيع تقديم شيء لعائلتي، وأشعر بالعجز. كل شيء غالي، حتى الأشياء التي كانت تعتبر أساسية في رمضان أصبحت خارج قدرتنا الشرائية”.

في حين أكدت هدى عيتاني، وهي موظفة في قطاع التعليم، أن الوضع الاقتصادي أثر بشكل كبير على أدائها في العمل وعلى علاقتها بزملائها.

قالت هدى: “الأزمة الاقتصادية لا تؤثر فقط على حياتنا الشخصية، بل تؤثر على عملنا أيضًا. أصبحنا نتحدث في المكاتب عن كيفية توفير الطعام بدلًا من النقاش في الأمور العملية. الرواتب لا تكفي، وحتى القروض لم تعد تسعفنا”.

في إطار آخر، أشار الخبير في الاقتصاد الغذائي، الدكتور جلال نصار، إلى أن الارتفاع الحاد في أسعار السلع الغذائية يعود جزئيًا إلى المضاربات في السوق واستغلال التجار للأزمة الاقتصادية.

وقال الدكتور نصار: “نحن نشهد استغلالًا واضحًا من قبل بعض التجار الذين يرفعون الأسعار دون أي مبرر واضح، وهذا يزيد من معاناة المواطنين. هناك حاجة ملحة لتفعيل الرقابة على الأسواق وضبط الأسعار”.

أما المواطن حسن الخليل، الذي يعمل سائق أجرة، فقد أكد أن دخله اليومي لم يعد يكفي حتى لتأمين وجبة إفطار بسيطة لعائلته.

قال حسن: “نعمل طوال اليوم دون أن نجني ما يكفي حتى لشراء كيلوجرام من الأرز أو لتر من الزيت. كل شيء أصبح مكلفًا بشكل غير معقول. الناس في الشارع يشتكون، ونحن كسائقي أجرة نعيش نفس المعاناة. رمضان هذا العام ليس كما عرفناه”.

من جهة أخرى، أشارت الناشطة النسوية ريما عبيد إلى أن النساء في لبنان هن الأكثر تضررًا من هذه الأزمة الاقتصادية،

قائلة: “النساء يتحملن العبء الأكبر في تأمين الطعام للعائلة خلال رمضان. يجب أن نتحدث عن كيف أن هذه الأزمة تزيد من الضغط النفسي على الأمهات وربات البيوت. النساء يلعبن دورًا رئيسيًا في الحفاظ على استقرار الأسرة، ولكن في ظل هذه الظروف الصعبة، قد نرى تصاعدًا في المشاكل النفسية والاجتماعية بين النساء”.

وفي الختام، أكد الناشط الاقتصادي مارون حداد أن أزمة لبنان ليست فقط اقتصادية بل هي أيضًا أزمة ثقة بين الشعب والسلطة،

مشيرًا إلى أن “الناس فقدت ثقتها في النظام السياسي، والجميع يعلم أن الحلول موجودة ولكن لا يتم تنفيذها. هناك فساد متجذر في كل جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية، وإذا لم يتم إصلاح هذا النظام من جذوره، فإن الأوضاع لن تتحسن بل ستزداد سوءًا”.

تستمر معاناة المواطن اللبناني وسط تفاقم الأزمة الاقتصادية، محاصرًا بين ارتفاع الأسعار وانعدام الحلول الفعالة. رمضان هذا العام كشف عن حجم الفساد وعجز الحكومة عن مواجهة التحديات.

في ظل غياب الإصلاحات الجذرية، يبقى التساؤل قائمًا حول مستقبل لبنان وقدرة شعبه على الصمود أمام هذه الأزمات المتتالية.

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه: إلى متى سيظل المواطن اللبناني يواجه هذه الأزمات دون حلول جذرية؟ شهر رمضان الذي كان رمزًا للكرم والتضامن تحول إلى شهر من التحديات الاقتصادية التي تكشف عن عمق الأزمة التي يعيشها لبنان.

في ظل ارتفاع الأسعار واستغلال التجار وغياب الحلول السياسية، تبدو الأوضاع مرشحة للمزيد من التدهور ما لم يتم اتخاذ خطوات فورية وشجاعة للتخفيف من معاناة الناس.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى