مقالات ورأى

طارق العوضي يكتب: حين يغيب العدل يتعثر الوطن


رغم كل النداءات التي أطلقتها القوى السياسية ورغم كل مبادرات أهالي السجناء، إلا أن الدولة لم تستجب للإفراج عن مسجوني الرأي، وهذا التعنت غير المبرر له تداعيات بالغة السوء والسلبية على كافة المستويات.

يأتي هذا الإصرار على تجاهل المطالبات في وقت حرج تتعاظم فيه التحديات التي تواجه المجتمع والدولة، وتتعالى فيه الأصوات المطالبة بالاصطفاف الوطني لمواجهة هذه التحديات. لكن كيف يمكن أن نتحدث عن اصطفاف وطني حقيقي في ظل غياب أصوات وعقول مؤثرة خلف القضبان لا لشيء سوى أنها عبرت عن رأي أو موقف مغاير لما تطرب آذانهم لسماعه ؟

إن المناخ العام للحريات والديمقراطية يشهد تراجعاً ملحوظاً، مما يؤدي إلى ضعف الثقة بين المواطنين والسلطات. وعندما تنتهك حرية الرأي والتعبير، فإن ذلك لا يقتصر على تقويض المبادئ المكفولة في المواثيق الدولية فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى المساس بجوهر التماسك المجتمعي.

هذا التعنت الذي يشوه صورة الدولة أمام المنظمات الحقوقية الدولية وامام شعبها ، ويخلق فجوة عميقة بين النصوص القانونية والدستورية وبين التطبيق الفعلي لها، مما يقوض مبدأ سيادة القانون ويكرس الشعور بالانتقائية في تطبيقه.

وعلى الصعيد السياسي والاجتماعي، فإن تجاهل قضية سجناء الرأي يعمق الانقسام المجتمعي ويوسع الفجوة بين الدولة والمعارضة، ويضعف الثقة في جدية الإصلاحات السياسية ومصداقية الحوار الوطني، ولجنة العفو الرئاسي ، مما يؤدي إلى تنامي مشاعر الإحباط والاغتراب، خاصة بين الشباب والمثقفين الذين يمثلون الطاقة المحركة للمجتمع.

ولا يمكن تجاهل المعاناة الإنسانية لآلاف الأسر التي فقدت معيلها أو أحد أفرادها، وما ترتب على ذلك من تدهور في أوضاعها الاقتصادية مع طول فترة الاحتجاز، ناهيك عن الآثار النفسية والصحية البالغة الضرر على المحتجزين أنفسهم، والتي قد تمتد آثارها لسنوات طويلة بعد الإفراج عنهم.

وعلى المستوى الاقتصادي، يسهم هذا الوضع في التأثير سلباً على مناخ الاستثمار، حيث يربط المستثمرون الأجانب غالباً بين استقرار الاستثمار واحترام الحريات، فضلاً عن هدر الطاقات البشرية والفكرية التي كان يمكن أن تساهم في عملية التنمية.

إن تأثير هذا التعنت على مطالبات الاصطفاف الوطني في مواجهة التحديات يتجلى بوضوح في إضعاف مصداقية خطاب الوحدة الوطنية، إذ يصعب إقناع جميع أطياف المجتمع بالاصطفاف خلف قيادة تحتجز مواطنين بسبب آرائهم، كما يخلق تناقضاً صارخاً بين الدعوات للتكاتف الوطني وبين الممارسات على أرض الواقع.

هذا الوضع يقوض ثقة قطاعات واسعة من المجتمع، ويدفع العديد من الفئات والتيارات للتشكيك في جدية الدعوات للاصطفاف، مما يؤدي إلى عزوف شرائح مجتمعية مؤثرة عن المشاركة الفاعلة في مواجهة التحديات المشتركة. كما أن حرمان الوطن من كفاءات وعقول يمكن أن تساهم بفاعلية في مواجهة التحديات، ناهيك عن تحويل جزء كبير من الطاقة المجتمعية للدفاع عن السجناء بدلاً من توجيهها لمواجهة التحديات الوطنية.

يعزز هذا الوضع حالة الاستقطاب، ويحول النقاش من التركيز على التحديات المشتركة إلى الانقسام حول قضية الحريات، مما يجعل التحديات الوطنية قضية خلافية بدلاً من أن تكون محل إجماع.

كما يقدم ذريعة للأطراف الخارجية، ويعطي فرصة للتدخلات بحجة انتهاك حقوق الإنسان، مما يضعف موقف الدولة في مواجهة الضغوط والتحديات الخارجية.

في النهاية،فمن المستحيل الحديث عن بناء جبهة داخلية متماسكة في ظل استمرار تجاهل مطالب شرائح واسعة من المجتمع. فالاصطفاف الوطني الحقيقي يتطلب بيئة من الثقة المتبادلة والشعور بالعدالة والمساواة أمام القانون، وهو ما يتعارض مع استمرار احتجاز أصحاب الرأي المخالف.

إن استمرار هذا النهج دون تغيير يمكن أن يؤدي إلى تعميق الأزمة وجعل الحلول المستقبلية أكثر تعقيداً وصعوبة، مما يؤثر سلباً على آفاق المصالحة الوطنية والإصلاح السياسي على المدى البعيد. والمفارقة أن هذا التعنت يأتي في اللحظة التي يحتاج فيها الوطن إلى كل أبنائه، ويتطلب فيها توحيد الجهود لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية المتعاظمة.

إن الإفراج عن سجناء الرأي ليس مطلباً فئوياً أو حزبياً، بل هو ضرورة وطنية ملحة لإعادة بناء الثقة وترميم النسيج الاجتماعي وإطلاق طاقات المجتمع لمواجهة التحديات الحقيقية. وهذه خطوة لا يمكن تأجيلها أو تجاهلها إذا كانت هناك إرادة حقيقية لبناء وطن متماسك قادر على مواجهة التحديات.
وكل عام ومصر وشعبها بكل خير وسلام وحريه واستقرار

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى