
عندما يزيد المحتل من وتيرة البطش بحق أهل البلد المستَعمر فاعلم أنه يعيش حالة من التصدع وتمدد الشروخ في جوانبه كافة، ولا شيء غير الحرب أمامه كآلية لعلاج جسده المنهك وإعادة ترميم النسيج الداخلي تفاديا للسقوط الأخير، وتلك حقيقة كان يعيشها الاحتلال قبل طوفان الأقصى الذى زلزل أركانه وكشف تصدع جبهته الداخلية وقوته المتوهمة ومشاريع الانقسام التي باتت تلوح في الأفق الإسرائيلي رغم التماسك الظاهري، لكنه تماسك هش وراءه فتيل من الخلافات يحترق.
وفي تلك اللحظة الفارقة التي تعيشها مصر نظرا لكثرة الضغوط الخارجية لقبول مشروع التهجير الأمريكي يتوجب على مَن كان في قلبه مثقال ذرة من وطنية الاصطفاف وراء الدولة لمنع تنفيذ المخطط، وتنحية أي خلاف قد ينتج عنه فرقة وتباينا في وجهات النظر، فقطاع غزة خط دفاع مصر الأول عن سيناء، وبالتالي فالأمر لا يتعلق بأشخاص بل بأمن دولة تُعتبر عمود الخيمة في المحيط العربي، فمهما نتج عن خلافاتنا الداخلية من أثمان تظل أهون بكثير من تمرير مخطط خارجي يُعرض مصالح الجميع للخطر ويكون أول الخيوط لنسج استعماري جديد، يُطوّق مصر ويحصرها أمام خيارين، إما التفريط في الأرض طوعا أو المواجهة العسكرية كرها.
لذلك كان على الدول الكبرى أن تسارع في حصار الخطر قبل أن يحاصرها وألا تنتظر الدفاع عن أمنها القومي من النقطة صفر من حدودها، بل تذهب بعيدا لتصده قبل أن يطوقها، ويبدو أن إسرائيل غرّها احترام مصر لمعاهدة السلام فأرادت التمدد أكثر فأكثر على حساب دول المنطقة بموجب القوة وليس بموجب القانون الدولي وبنود الاتفاقية.
“الدبلوماسية من دون قوة كالموسيقى من دون آلة” كما قال الزعيم الألماني بسمارك، وقد رأينا كيف مرّغت المقاومة أنف الاحتلال في التراب رغم الخسائر البشرية وانهيار المدينة، لكن هذا في عُرف السياسة والاستراتيجيات العسكرية يُسمى “النصر العقيم” لأنه عجز في تحقيق أهدافه، فما زالت المقاومة صامدة بقوة السلاح والتحرك المنظم، ومصر على الضفة الأخرى تصبر صبر المتربص وتُعوّل على الدبلوماسية النشطة كحل بديل عن المواجهة الخشنة، لكن ذلك بحاجة إلى حاضنة شعبية تشد من أزر السلطات المصرية وتفضح الكيان بكل اللغات، عبر حشد رأى عام دولي، وقد اقترح خبير مصري كبير في القانون الدولي يعيش في أوروبا حاليا في حديث شخصي، أن تتبنى مصر فكرة مؤتمر سنوي بعنوان: “المنتدى العالمي للأمن السلام” يحضره سياسيين وخبراء ودبلوماسيين وأعضاء برلمان أوروبي لمناقشة قضايا الأمن والسلام بشكل جدّي وفعال، ويكون مدخل لحشد رأى عام دولي مساند لدعم غزة ورفض التهجير وطرح الحلول البديلة وبدء الإعمار وتوضيح خطورة التهجير على أمن واستقرار الشرق الأوسط والمصالح الأمريكية والغربية، ما يُمكّن صناع القرار من إيجاد حلول دائمة لقضايا المنطقة وخاصة القضية الفلسطينية ككل.
نرى أن مصر لا تدخر جهدا في التصدي لمقترح ترامب فنحن أكثر دولة ستتضرر بعد الفلسطينيين من هذا المخطط الجنوني، فأي صراع وجودي بين طرفين المفاوض فيه خاسرا لا محالة، خاصة لو كان صاحب حق، فليس من العقل أن يسير اثنان على حبل ممتد بين ضفتين ولا يقع أحدهما، فإما انتصار ساحق يحفظ الأرض والسيادة، أو هزيمة ماحقة يتبعها إذلال وتبعية، وقد تجلى هذا المعنى في قول “مناحم بيجين” عام 1978: ” إن العرب تمتعوا بحق تقرير المصير في إحدى وعشرين دولة، وهم يريدون أن ينشئوا دولة جديدة بتقرير المصير ليقضوا على مصيرنا، لا لتقسيم القدس ..لا للانسحاب إلى حدود 67″.
وتعتبر دولة يهودا التى يتبنى فكرتها الشطر الأكبر من اليهود داخل المستوطنات نواة التطرف لحكومة نتنياهو ومنها يستمد عزمه وإجرامه في إبادة الفلسطينيين، ومثّل أنصار هذا الاتجاه القاعدة الانتخابية التى أمّنت فوز نتنياهو في الانتخابات، ويتزايد تأثيرها في الصفوف العليا بجيش الاحتلال وأجهزة الأمن، وتسعى دولة يهودا إلى تحويل إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية تمتد على كامل فلسطين التاريخية ومن ثم كامل المنطقة، ولتحقيق ذلك فلا بد من تقليل عدد الفلسطينيين إلى الحد الأدنى من خلال التهجير خارج فلسطين، لتجديد العصر الذهبي للممالك التوراتية.
تلك هي رؤيتهم وطموحهم الصهيوني اللامحدود، فمشروع التهجير هو البداية لابتلاع المنطقة ولا ينبغي لأكبر دولة مركزية في الإقليم أن تقف متفرجة أمام هذا التهديد الوجودي، فهم يرون أن مصر الجائزة الكبرى ودرة التاج، لذلك أنهكوا محيطها بالصراعات لإسقاطها آخر الأمر، يظنون أنها وحيدة ونسوا أن مصر وراءها جيش وشعب وتاريخ حافل بالانتصارات في لحظات فارقة وجغرافيا عصت على التغيير منذ آلاف السنين.