أخيراً، وبعد مفاوضات مضنية استمرّت أكثر من ثمانية أشهر، جرى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزّة، دخل حيز التنفيذ بالفعل يوم 19 الشهر الجاري (يناير/ كانون الثاني). لا يختلف هذا الاتفاق كثيراً عن خطةٍ أعلنها الرئيس الأميركي السابق، بايدن، بنفسه في مايو/ أيار الماضي، وقال إنها تستند إلى مقترحات إسرائيلية في الأساس، لكن رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، تنصل منها بمجرّد أن أعلنت حركة حماس موافقتها عليها من حيث المبدأ. وقد اتضح، منذ ذلك الحين، أن نتنياهو لا يريد للحرب أن تتوقف ويصرّ على استمرار القتال إلى أن يتمكّن من تحقيق “النصر المطلق”، أي تدمير “حماس” سياسياً وعسكرياً واستعادة المحتجزين والتحكم في مصير القطاع. ولأنه لم يتمكن من تحقيق أي من هذه الأهداف طوال ثمانية أشهر، اضطر إلى الموافقة على اتفاق يكاد يكون نسخة طبق الأصل من خطة بايدن.
لا ينص الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار، لكنه يفتح الطريق لتحقيقه، ولا يحسم جميع القضايا الخلافية، لكنه يُلزم طرفي الصراع بالدخول في مفاوضات غير مباشرة لمناقشة ما تبقى منها وتذليل العقبات التي تعترض طريق تسويتها، وحدّد لهذه المفاوضات موعداً لا ينبغي تجاوزه، وألزم الوسطاء بالعمل ليس على ضمان استمرارها فحسب، وإنما أيضاً على ضمان استمرار وقف إطلاق النار في الوقت نفسه.
يتضمن الاتفاق ثلاث مراحل، مدة كل منها 42 يوماً. وحدها الأولى تشتمل على التفاصيل المتعلقة بالقضايا الأساسية: تبادل الأسرى والمحتجزين، انسحاب القوات الإسرائيلية، عودة النازحين، تدفق المعونات الإنسانية. أما المرحلتان الثانية والثالثة فقد اكتُفي فيها بالنص على توجهات عامة وقواعد حاكمة، وتركت التفاصيل لمفاوضات أخرى لاحقة… تتضمن المرحلة الأولى الإفراج عن 33 محتجزة إسرائيلية من المرضى وكبار السن والمجنّدات، على أن تجري مبادلة كل مدنية بثلاثين أسيراً أو أسيرة فلسطينية، ومبادلة كل مجندة إسرائيلية بـ50 أسيراً أو أسيرة فلسطينية، وفقاً لقوائم جرى الاتفاق عليها، تشمل أعداداً من المحكوم عليهم بالمؤبد، وأعداداً ممن اعتقلوا في غزّة منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ولم يشاركوا في أحداث 7 أكتوبر، وأعداداً من سجناء صفقة تبادل الجندي جلعاد شاليط. كما سيسمح لمعظم الأسرى المفرج عنهم بالعودة إلى الضفة وغزّة، بينما سيجري ترحيل الباقي إلى الخارج. أما المحتجزون من الرجال الباقين على قيد الحياة من الجنود والمدنيين على السواء، فسيجري الإفراج عنهم جميعاً في المرحلة الثانية، مقابل عدد يتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين. وفي المرحلة الثالثة والأخيرة، يجري تبادل جثامين ورفات الموتى من الجانبين، بعد الوصول إليهم والتعرّف عليهم.
رفض نتنياهو رفضاً قاطعاً الالتزام مسبقاً بوقف دائم لإطلاق النار، حتى بعد استعادة جميع المحتجزين
وسيجري انسحاب القوات الإسرائيلية وفقاً لصيغة متدرّجة، تبدأ من المناطق المكتظة بالسكان، بما فيها وادي غزّة (محور نتساريم ودوار الكويت)، مع الاحتفاظ بمنطقة عازلة على طول الحدود لا يتجاوز عرضها 700 متر، باستثناء خمس نقاط في الجنوب لا بتجاوز عرض كل منها 1100 متر، تحدّدها خرائط مرفقة بالاتفاق. يستثنى من هذه الصيغة كل من محور فيلادلفي ومعبر رفح اللذين يخضعان لترتيبات خاصة، حيث سيجري خفض تدريجي للقوات الموجودة في منطقة المحور. وبعد إطلاق سراح آخر رهينة في اليوم الأخير من المرحلة الأولى، تبدأ القوات الإسرائيلية انسحابها، وتستكمله بما لا يتجاوز اليوم الخمسين. أما معبر رفح فسيصبح جاهزاً لنقل المدنيين والجرحى عقب إطلاق سراح جميع النساء المدنيات والمجندات، لكن إسرائيل ستعيد نشر قواتها حوله وفقاً لخرائط مرفقة بالاتفاق، كما سيُسمح بعبور 50 فرداً من العسكريين الجرحى يومياً برفقة ثلاثة أفراد بعد حصولهم على موافقة من كل من مصر وإسرائيل، وسيجري تشغيله وفقاً للقواعد المتفق عليها في مشاورات جرت في أغسطس/ آب الماضي، وسيُسمح لجميع المدنيين الفلسطينيين المرضى والجرحى بالعبور منه. أما الانسحاب النهائي خارج القطاع فلن يكتمل إلا في المرحلة الثانية.
وينص الاتفاق على السماح للنازحين بالعودة عبر شارع رشيد إلى شمال محور نتساريم، من دون حمل السلاح ومن دون تفتيش، في اليوم السابع بعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ. كما سيسمح للمركبات بالعودة، بعد أن تفحصها شركة خاصة يحدّدها الوسطاء، بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي، وبناء على آلية متفق عليها. وفي اليوم 22، سيُسمح للجميع بالعودة من شارع صلاح الدين من دون تفتيش. ويفترض أن تبدأ عملية الإعمار وتعويض المتضرّرين في المرحلة الثالثة، وفقاً لخطة مدتها من ثلاث إلى خمس سنوات، تحت إشراف عدة دول ومنظمات، منها مصر وقطر والولايات المتحدة. وينص الاتفاق على السماح للمعونات الإنسانية بالتدفق، استناداً لبروتوكول إنساني جرى الاتفاق عليه بإشراف الوسطاء. يشمل دخول 600 شاحنة مساعدات كل يوم من أيام وقف إطلاق النار، 50 منها تحمل الوقود مع تخصيص 300 شاحنة للشمال.
الخبراء العسكريون الأميركيون مقتنعون بأن العودة إلى القتال لن تقضي على “حماس”، ولن تمكّن الجيش الإسرائيلي من السيطرة الدائمة على قطاع غزّة
ويتضح من هذا السرد أن البدء بتنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق يتوقف على نجاح مفاوضات ينبغي أن تجري خلال المرحلة الأولى، وأن تتواصل تحت رعاية الوسطاء، إلى أن تنتهي باتفاق تفصيلي، يبدأ بإعلان التوصل إلى هدنة مستدامة يجري بموجبها وقف دائم للعمليات العسكرية ولجميع الأنشطة العدائية. وهنا المعضلة الرئيسية، فقد رفض نتنياهو رفضاً قاطعاً الالتزام مسبقاً بوقف دائم لإطلاق النار، حتى بعد استعادة جميع المحتجزين. صحيح أن الاتفاق يلزم نتنياهو بالتفاوض على التفاصيل المتعلقة بالمرحلة الثانية ابتداء من اليوم السادس عشر من المرحلة الأولى، كما يلزم الوسطاء برعاية العملية التفاوضية إلى أن يكتمل تنفيذ المراحل الثلاث. ومعلوم أن نتنياهو قبل الاتفاق مرغماً، ويرغب بشدة في التنصّل منه ويتحيّن فرصة لهذا، وهو ما تؤكده تصريحاته، حتى في مرحلة ما بعد الوصول إلى الاتفاق، فهو يدرك بوضوح أن الاتفاق ليس في صالحه، وقد يفضي إلى تفكك الحكومة التي انسحب منها إيتمار بن غفير بالفعل، ويهدّد بتسلئيل سموتريتش بالانسحاب منها إذا لم يستأنف نتنياهو القتال في نهاية المرحلة الأولى. صحيح أن عدة أحزاب في المعارضة تطالب نتنياهو بالمضي في تنفيذ الاتفاق إلى استعادة جميع المحتجزين، وأبدت استعدادها لتقديم شبكة أمان للحيلولة دون انهيار الحكومة، إلا أن نتنياهو لا يثق بهذه الأحزاب، ولا يضمن أن تستمر في حماية الحكومة حتى نهاية فترة ولايته. ومع ذلك تبدو قدرة نتنياهو على انتهاك الاتفاق والعودة إلى القتال محدودة، لأسباب موضوعية عديدة، داخلية وخارجية، فبعد اكتمال المرحلة الأولى ستظل “حماس” محتفظة بأهم أوراقها التفاوضية، وهي الإمساك بمحتجزين عديدين، بعضهم عسكريون من ذوي الرتب العالية، وسيكون جميع سكان الشمال في القطاع قد عادوا إلى مناطقهم رغم افتقار المنطقة إلى مقومات الحياة، وستكون “حماس” ومعها بقية فصائل المقاومة قد تمكنت من إعادة تنظيم صفوفها. والأهم أن الرأي العام الداخلي، والذي تظهر الاستطلاعات أن النسبة الأكبر منه تؤيد تنفيذ الاتفاق بمراحله الثلاث، ومن ثم سيكون متعاطفاً مع أسر الأسرى والمفقودين الذين يتوقع أن يمارسوا ضغوطاً متزايدة على نتنياهو لمواصلة الالتزام به إلى استعادة جميع الرهائن.
ويبدو واضحاً أن الرئيس الأميركي ترامب، والذي لعب، قبل دخوله البيت الأبيض، دوراً حاسماً في حمل نتنياهو على توقيع الاتفاق، يريد للاتفاق أن يصل إلى نهايته، ومن ثم يتوقع أن يطلب من جميع الأطراف مواصلة الالتزام بتنفيذ جميع مراحله، فاستئناف القتال قد يؤدّي إلى إرباك أجندة ترامب الخارجية، نظراً إلى حاجته الماسّة إلى قدر من الهدوء في منطقة الشرق الأوسط. فلديه، من ناحية، أولويات في مناطق أخرى أهم، ولأن اشتعال الحرب في المنطقة من جديد سيؤدي، من ناحية أخرى إلى عرقلة خططه الرامية إلى البحث عن “صفقة قرن جديدة” يعتقد أنها ستلبي مصالح إسرائيل بشكل أفضل، خصوصاً أن الخبراء العسكريين الأميركيين مقتنعون بأن العودة إلى القتال لن تقضي على “حماس”، ولن تمكّن الجيش الإسرائيلي من السيطرة الدائمة على القطاع.
رغم كل ما سبّبه نتنياهو من دمار هائل في المنطقة، وما حققه من “منجزات” في معارك على مختلف الجبهات، لكنه لم يكسب الحرب بعد، ولن يستطيع أن يكسبها، ما دام أنه لا يملك تصوّراً لمستقبل المنطقة بدون التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية، وهو هدف أثبتت المقاومة في المنطقة أنه مستحيل التحقيق.