بدأت الفضائح تتساقط على حزب الوفد كأمطار سوداء تعكر صفو تاريخه، وأجد نفسي كالمفجوع في تاريخ عريق كبرنا على عشقه واحترامه، هذا الحزب الذي كان يوماً ما حصناً للقيم والمبادئ، كانت مبادئه هي نبراس الحرية والديمقراطية في مصر، أصبح اليوم مسرحاً للسخرية السياسية والفضائح المخزية.
لكن للأسف، أرى اليوم هذا الحزب يترنح بين تسريبات وفضائح متوالية، ما كان له أن يصل لهذا الحال، تسقط الفضيحة تلو الأخرى، وتخرج أسرار البيت الداخلي لتكشف عن انقسامات عميقة وصراعات دنيئة بين قياداته، فلقد ضاعت قيم الوفد في متاهات الصراع الداخلي، وتحول الكيان الذي أعشقه إلى لعبة بيد من لا يملكون فهماً حقيقياً لتاريخه.
إنه لمن المحزن أن نرى هذا الكيان السياسي الذي كنت أعده بمثابة الوطن الذي يسكنني، يتحول إلى مسرح للفضائح والخلافات الشخصية.
وكما قال قداسة البابا شنوده الثالث: “مصر ليست وطناً نعيش فيه، بل وطناً يعيش فينا”، أقول الآن بحزن عميق: “الوفد ليس حزباً نعيش فيه، بل حزباً يعيش فينا”.
أجد نفسي اليوم مضطراً للحديث عن آخر تسريبات الحزب، والتي اندلعت كالقنابل، تكشف ما يدور خلف الأبواب المغلقة بين رئيس الحزب الدكتور عبدالسند يمامة والنائب أيمن محسب، أحد أقرب مساعديه، والذي قام بتعيينه في منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة الوفد الإعلامية في مخالفة صريحة للوائح الداخلية.
حيث شنت التسريبات هجوماً صريحاً ولاذعاً على الدكتور ياسر الهضيبي، سكرتير عام الحزب، وأحد أهم قياداته، كيف تحول الوفد إلى هذا المسرح الهزلي، حيث يعجز حتى كبار قادته عن حفظ الاتزان والاحترام فيما بينهم؟
فقد أذهلني كيف سقطت المبادئ وسادت الفوضى، وأصبح الهجوم على الشرفاء هو القاعدة. كيف سقط هذا الحزب إلى مستوى التلاعب بمستقبله والتآمر على رجاله؟!
لا أستطيع إلا أن أعبّر عن إحباطي العميق تجاه هذه التصرفات، فالدكتور ياسر الهضيبي، الذي أعرفه جيداً وأعتز بصداقته، لا يستحق مثل هذه الإهانات.
شهادتي فيه مجروحة، لكنني أقولها بكل صراحة .. هذا الرجل رجل نزيه، شريف حتى في خصومته، ففي بداية معرفتي به، كان يختلف معي بصدق، وكانت كلماته نابعة من قلب شريف يسعى للحق.
قد هاجمته في البداية لكونه من قيادات الحزب الوطني الديمقراطي المنحل، ولكن الرجل أثبت خلال مسيرته في حزب الوفد أنه وفدي حتى النخاع، لا يختلف في مواقفه عن من تربوا في مدرسة فؤاد باشا سراج الدين.
أذكر موقفه النبيل عندما وقف إلى جانبي وطالب الدكتور عبدالسند يمامة بإلغاء قرار فصلي من الحزب، رغم خصومتنا في ذاك الوقت، لقد قال كلمة الحق، وهذا ما يميزه عن غيره من الذين يفجرون في الخصومة ويتخذون من الكذب وسيلة لتدمير الآخرين.
خصومته لم تكن يوماً قلة أدب أو تعدي على القيم، بل كانت خصومة نزيهة مبنية على احترام الطرف الآخر، حتى وإن اختلف معه، لكن ما أراه الآن في حزب الوفد هو العكس تماماً: خصومة مشينة، مليئة بالكذب والتشويه.
هاجمت الفضيحة تاريخاً بأكمله، وجعلتني أشعر بالخجل من الانتماء إلى حزب يتزعمه أشخاص لا يعترفون إلا بالقوة والصراع الشخصي.
تتجاوز هذه التسريبات مجرد خلافات سياسية، فهي تنزع الستار عن الوجه الحقيقي لبعض القادة، الذين أصبحوا يفجرون في خصوماتهم بلا رحمة، ويتخذون الكذب وسيلة لبناء سلطتهم، وكأن شرف الخصومة بات مفهوماً غريباً عن قاموسهم.
فأنني أحببت حزب الوفد منذ صغري، ووجدت فيه ذلك الصرح الذي لا يمكن لأي رياح سياسية أن تهدمه، لكن الآن، ماذا يمكنني أن أقول عن حزب كل يومين تخرج له فضيحة جديدة؟ لقد تحول هذا الحزب إلى رماد، كيان بلا روح، تسيطر عليه الانقسامات والصراعات التي لا تحمل سوى المصالح الشخصية.
لا يكفي أن تكون وفدياً بالأقوال، يجب أن تكون وفدياً بالأفعال، وهو ما فقده بعض قيادات الحزب في ظل هذه الفوضى.
ما يؤلمني أكثر هو أنني عضو في حزب الوفد منذ 35 عاماً، لم أفصل في حياتي السياسية إلا مرة واحدة في عهد الدكتور نعمان جمعة، و14 مرة في عهد الدكتور عبدالسند يمامة، دون سبب مقنع أو سند قانوني. أرى أن ما يحدث الآن في الحزب لا يعبر إلا عن أزمة عميقة في الأخلاق، قبل أن تكون أزمة سياسية.
الفجور في الخصومة لا يظهر إلا معادن البشر الحقيقية، عندما ترى شخصاً يهاجم بلا منطق ويبالغ في الاتهامات، فاعلم أنه بلا شرف في خصومته.
الخصومة النبيلة تظهر الرجل الحقيقي، بينما الخصومة الدنيئة تكشف الوجه القبيح للإنسان. الدكتور ياسر الهضيبي كان نبيلاً في خصومته، بينما من يفجر في الخصومة الآن لا يملك من النبل شيئاً.
اليوم، عبدالسند يمامة يقف في مأزق، تسريباته مع النائب أيمن محسب لن تمر بسهولة، ولن تُمحى من ذاكرة الوفديين.
لقد تحولت الخلافات الداخلية إلى فضائح تتداول في الصحف ووسائل الإعلام، وأصبحت قيادة الحزب في مرمى الانتقادات. الحزب الذي كان رمزاً للوطنية والحرية، أصبح الآن في قبضة انقسامات داخلية وصراعات على النفوذ والمناصب.
أدانت الأحداث كل القيم التي كان الحزب يمثلها لي ولأجيال من الوفديين، لم أكن أتخيل أن أرى حزباً بهذا التاريخ العظيم يتحول إلى مزرعة للانقسامات الداخلية.
كنت أتوقع أن تكون هناك صراعات سياسية، نعم، فهذا جزء من الحياة الديمقراطية، لكن أن يصل الأمر إلى تسريبات وفضائح؟! أن يُباع الحزب في مزادات السياسة الرخيصة؟! هذا هو ما لم أكن أستطيع استيعابه أو تقبله.
يؤسفني أن أرى حزب الوفد يتحول إلى هذه الصورة المأساوية، قد اختلفنا كثيراً داخله، ولكن هذا لم يكن يوماً سبباً لتدمير تاريخ هذا الحزب العظيم.
لقد تحول كل شيء إلى صراع على السلطة، ونسيت المبادئ التي قام عليها حزب الوفد، ما يحدث الآن هو انعكاس لانهيار القيم السياسية داخل الحزب، الفجور في الخصومة، التخوين، الكذب، كل هذا لا يمثل الوفد الذي عرفناه.
كل ذلك يشوه صورة حزب كان في يوم من الأيام رمزاً للشرف والنضال، كيف يمكن للحزب أن ينجو من هذه الكارثة إذا استمر هذا التمزق الداخلي؟ فقد اضطرتني الأحداث الأخيرة إلى التفكير بعمق في معنى الشرف السياسي، وفي كيف أن بعض القادة يتخلون عن هذا الشرف من أجل مكاسبهم الشخصية.
لم يكن الشرف يوماً مجرد شعار، بل هو أساس يقوم عليه أي حزب سياسي حقيقي، لكن، ماذا يحدث عندما ينهار هذا الأساس؟ يصبح كل شيء بلا قيمة، وتتحول الخلافات إلى معارك قذرة لا تُبقي ولا تذر.
صدمتني الحقيقة القاسية أن حزب الوفد قد سقط في يد من لا يقدرون قيمته، تجرد الحزب من مبادئه، وانحدر إلى مستوى الصراع الشخصي والتسريبات المشينة، كيف يمكن أن يعود الحزب إلى ما كان عليه؟ كيف يمكن أن نستعيد الشرف والكرامة التي كانت دائماً أساس حزب الوفد ؟!
لا أجد إجابة سوى أن الحزب يحتاج إلى ثورة داخلية، إلى تطهير حقيقي يعيد له روحه التي فقدها، ولا يسعني إلا أن أقول، بأسف عميق، أن حزب الوفد يحتاج اليوم إلى قيادة جديدة، قيادة تعيد له هيبته ومكانته.