– باحث وناشط سياسي – أكاديمية المجلس العربي
مثلت الثورة التونسية تجربة فريدة من نوعها هي الأولى في العالم العربي والتي كانت بمثابة رياح عاتية اهتزت لها قلاع الديكتاتورية والتي طالبت بالحرية، وطالبت بالكرامة وبإقامة نظام حكم جديد أساسه الديمقراطية. ونجاح الثورة التونسية من خلال تتويجها في 14 جانفي 2011 بسقوط نظام بن علي وهروبه طالبا اللجوء من المملكة العربية السعودية هو والعديد من أفراد عائلته مثل مصدر إلهام لبعض بلدان العالم العربي في انتشار “عدوى” الثورة على الأنظمة الديكتاتورية والمطالبة كذلك بحقهم في الحرية والديمقراطية والتغيير حيث برهنت الثورة التونسية ان التغيير ممكن وأن حلم الديمقراطية قابل للتحقق في البلدان العربية و هذا ما أدى الى وصول شرارة الاحتجاجات الى ليبيا ومصر وسوريا واليمن والسودان، وحفزتهم لافتكاك حريتهم كشعوب تتوق الى التحرر…
إن رمزية الثورة التونسية مهمة جداً بصفتها البذرة الاولى في مسار التغيير، وهي من تجر قاطرة بقية دول الربيع العربي، ونجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس سوف يعود ايجابا على بقية دول الثورات العربية لتكون مصدر الهام ونموذج يحتذى به ورسالة مفادها ان حلم الديمقراطية في البلدان العربية أمر ممكن وليس بالأمر المستحيل … والعكس صحيح فإن فشلها سيفشل بقية الثورات وقد يصيب هذا العصب الثوري الشعبي بالارتخاء والضمور فمصدرة ثورات التحرر العربي قد تلهم بقية الدول سلبا أو إيجابا.
لكن للأسف الشديد, و بعد قرابة عشر سنوات على اندلاع شرارة الثورة في تونس، عرفت الثورة التونسية انتكاسات كبيرة و عديدة على جميع المجالات و على عدة مستويات ولم تترسخ ثقافة الديمقراطية وتتغلغل داخل عقل الشعب التونسي ولم نلاحظ أو نلتمس أثرا واضحا لالتصاق ثقافة الديمقراطية بالمواطن التونسي وربما هناك من “ارتد عنها أو كفر” بها، أو انكسرت في مخيلته تلك الصورة التي مفادها ان الثورة ستكون ذلك الحل السحري للعديد من مشاكل الشعب التونسي وعلى رأس تلك المشاكل المسائل المتعلقة بالتقدم والازدهار الاقتصادي والرخاء الاجتماعي بالأساس.
وبالعودة الى الوراء قليلا، وعندما نقرر مراجعة مسار الثورة التونسية نجد العديد من الأسباب المختلفة تقف وراء هذه الانتكاسة الثورية وربما مجالها الاساسي اسباب اقتصادية، بمعنى اخر؛ أي عدم تحقق انجازات اقتصادية ملموسة تجعل من الشعب التونسي عموما يؤمن بأن الثورة هي حقا باب للإصلاح والرفاهية ويعمق إيمانه بها.
صحيح أن تونس و الطبقة السياسية الحاكمة بعد الثورة كانت مركزة بشكل كبير على تثبيت أعمدة الديمقراطية من خلال مؤسسات دستورية قوية تضمن توزيع السلطة، وتضمن عدم استفراد أي جهة بالحكم بهدف تحصين الثورة وضمان عدم عودة حكم الفرد الواحد وإقامة مؤسسات دستورية مستقلة تدعوا لتدعيم آليات الرقابة، لكن كل ذلك كان على حساب المسألة الاقتصادية التي كانت مهمة ومفتاح من مفاتيح نجاح اولى ثورات الربيع العربي لكن للأسف ولعدة اسباب نقر بأن عامة الشعب لم يلتمسوا استفادة واضحة وملموسة من ثورة الحرية والكرامة تجعل منه يقر بأن الثورة ستحقق له كرامته في قوت عيشه.
والمتتبع جيدا لمختلف مراحل الثورة التونسية يستطيع ان يفهم الأسباب المختلفة الكامنة وراء هذا الاهمال، أي اهمال الجوانب الاقتصادية، أو لنقل هذا الإخفاق نحو تحقيق نجاحات اقتصادية ملموسة تجعل من المواطن التونسي يؤمن بأنها حقا ثورة كرامة فتقوى بذلك ركائز ودعائم الإيمان الثوري لدى الشعب، وبأنها ثورة حقيقية وفي صالح المواطن التونسي وليست ثورة صورية لا طائل منها.
وهذا الإخفاق في المنجز الاقتصادي حسب رأيي يعود الى عدة أسباب سنحاول في هذا المقال ذكر أهم هذه الاسباب التي أدت الي عدم بناء اقتصاد يتماشى وطموح التونسيين، والاهتمام بالجوانب الاجتماعية التي من شأنها ان تمثل أعمدة صلبة تقوى بها بناية الديمقراطية وهذا ما يقودنا الى طرح السؤال التالي: فيم تتمثل أبرز الأسباب التي أدت الى عدم تحقيق نتائج اقتصادية تصب في صالح تثبيت دعائم الثورة؟
التركيز المفرط على الجانب السياسي على حساب الجانب الاقتصادي
إن الطبقة الحاكمة ما بعد 2011 والأحزاب التي نالت ثقة التونسيين في أول انتخابات ديمقراطية بعد الثورة التونسية وخاصة منها حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي (أو ما يعرف بالترويكا الحاكمة) كانوا مسكونين بهاجس واحتمالية عودة الديكتاتورية وركزوا بشكل كبير على ما اعتبروه اولوية قصوى نحو حماية الديمقراطية وتحصينها دستوريا وعبر نظام حكم تكون فيه السلطة موزعة بين السلطات الثلاثة مما يحقق مبدأ الرقابة بين السلط خوفا من عودة الديكتاتورية خاصة وأنهم يعلمون جيدا حجم فظاعة الأنظمة الديكتاتورية وهم الذين قاوموها وقاوموا ظلمها راكضين وراء حلم الديمقراطية خائفين من ضياع ذلك الحلم بعد ان تحقق، وساعين لتحويل ذلك الحلم الفتي الى حلم متين يضمن عدم ارتداد هذه الثورة. فكانت الخطوة الأولى صياغة دستور يضمن عدم عودة الديكتاتورية، ويكون فيه توازن في توزيع السلطة والابتعاد عن النظام الرئاسي، وخاصة منه الرئاسوي، الذي يعطي السلطة المطلقة لرئيس الدولة وجعلت من النظام البرلماني أساسا لذلك.
كما أنها ركزت على بناء مؤسسات دستورية قوية تضمن تفعيل آلية الرقابة بين السلط كما أنها سعت لتركيز مؤسسات دستورية تعنى بكشف وفضح جرائم النظام السابق وما ارتكبته الة القمع من جرائم في حق معارضي النظام الحاكم عبر تركيز هيئة الحقيقة وكرامة.
و هذا يبرز لنا الانشغال الشديد و الهاجس الكبير الذي كان يسكن معارضي الأمس ومخاوفهم من ارتداد الثورة وعودة النظام السابق مركزين على المهم و متناسين الأهم، و الضامن الحقيقي لتحصين الثورة و صاحب الثورة الحقيقية ألا هو الشعب التونسي الذي كان يتطلع اكثر الى اصلاحات أخرى خاصة اقتصادية تجعل منه ينسى ذلك “الرخاء الاقتصادي” الكاذب الذي كان يروج له النظام السابق ولتركز الثورة بالانشغال اكثر على العدالة الاجتماعية والقضاء على التفاوت بين الجهات خاصة ان الثورة التونسية انطلقت من الجهات الداخلية التي كانت تعاني الفقر والتهميش والبطالة والتي كانت تتوق لرياح التغيير والمساواة بينها وبين بقية الجهات لكن صدم كل ذلك الشباب الثائر بواقع يصفونه بمخيب للإنتظارات ومحبط للآمال، مما جعل ايمانهم يضعف وتعلقهم وحماسهم يبلى تجاه ثورتهم التي علقوا عليها امالا كبيرا وهذا ما أثر سلبا على المسار الديمقراطي ككل فحين يفقد أصحاب الثورة الحقيقيين ثقتهم تجاه ثورتهم تصبح ثورة بدون حماة و بدون حصانة ومكشوفة تجاه أي ريف تحاول العبث بها.
دور نقابي سلبي
لم توفر الجهة النقابية مناخ مناسب لتطوير الاقتصاد كما أنها لعبت دور سلبي قائم على الاحتجاج وتعزيز مناخ الإضرابات مما ساهم في تعقيد الوضع الاقتصادي ولم تمنح الثورة هدنة اجتماعية حتى تستعيد انفاسها وتستجمع قوتها. كما انها لم تلعب دور توعوي أو تدفع نحو الإصلاح، بل كان دورا احتجاجي مطلبي مشط في كثير من الأحيان ومبالغ فيه
و لم تمنح الثورة هدنة اجتماعية، ولم تساهم في دفع عجلة الاقتصاد بل اقتصر دورها على الاحتجاج، والمطلبية المشطة التي كانت لا تتلاءم وطبيعة المرحلة، في الوقت الذي كانت البلاد تحتاج فيه الى هدنة اجتماعية لسنوات ،أو لنقل عقلنة المطلبية النقابية، لكنها كانت تحركات نقابية وصفت من قبل الكثير من المتابعين للشأن الوطني بأنها تحركات سياسية موجهة في اتجاه تعقيد الوضع الاقتصادي لإفشال الثورة ورموزها التي تقودها وهو دور وصف بغير البريء في اتجاه احراج أحزاب ما بعد الثورة وخاصة منهم الإسلاميين، وعدم توفير مناخ مناسب للعمل والارتقاء بالاقتصاد التونسي، واتهام بعض قيادات اتحاد الشغل بأنهم يغرقون في الأيدولوجيا وان جل القيادات النقابية كانت من رموز اليسار والقوميين الذين يعتبرون حكم الاسلاميين خطر على الدولة – حسب رأيهم- و يجب اسقاطهم وعرقلتهم بكل الطرق المتاحة.
عدم الاستقرار السياسي والتغيير الدائم للحكومات
من العناصر الأخرى التي ساهمت بشكل كبير في عدم تراكم الرؤية الإصلاحية هي مسألة عدم الاستقرار الحكومي، في بعض الأحيان لا تستمر فترة وجود بعض الوزراء في ذلك المنصب الا أشهر قليلة مما لا يسمح لهم ويعطيهم فرصة فهم الوضع الذي عليه تلك الوزارات وفهم طبيعة مشاكل ذلك القطاع حتى تنطلق عملية الانتاج أو الاصلاح وكانت فترة ميزتها الأساسية التغيير السريع للوزراء والمديرين وحتى الولاة والمعتمدين فغابت المراكمة وترابط العمل، والاكثر سوءا من هذا ان كل وزير جديد يقطع مع عمل الذي سبقه
فهذا التذبذب والتغيير وعدم الاستقرار الوظيفي أدى الى تشرذم الجهود وعدم مراكمة الجهود في سبيل تحقيق نتائج ملموسة في بعض الوزارات والقطاعات.
الدور غير البريء للإعلام
هذا لا يجعلنا ننكر ان هناك الكثير من المحاولات في اتجاه تحقيق مكاسب اقتصادية في كثير منها كانت إيجابية لكن كانت إصلاحات مدفونة وهذا ما يقودنا للحديث حول الدور السلبي و الغير بريء -كما وصفه الكثير- قام به الإعلام، حيث أن الاعلام ركز و بشكل كبير وواضح على كل ما هو سلبي اقتصاديا واجتماعيا دون أي عملية تثمين لما اهو إيجابي من قوانين وقرارات وجهود تصب في صالح تحسين وإصلاح الوضع الاقتصادي للشعب، فكأنها كانت هناك عملية تعتيم لهذه المكاسب ومحاولة قبرها وتسليط الضوء فقط على كل ما هو سلبي وكل ما له علاقة بالاحتجاج من قبل المواطن وهذا كان ملاحظا في أغلب البرامج السياسية ما بعد الثورة في الإعلام التونسي الذي ركز فقط على الصراعات الحزبية والمسائل الأيدولوجية وتقزيم كل محاولة إصلاحية في أي اتجاه. بل على العكس تماما كانت عملية إخراج متقنة ضمن سيناريو محبوك في سبيل إظهار ان كل قرار سياسي متخذ هو قرار يصب في مصلحة البراغماتية السياسية لا في صالح قفة المواطن كما عبر عنه الكثير.
ومجمل القول إن هذا التقصير الاقتصادي البريء لا يعفي النخب السياسية ما بعد الثورة ومن حكموا البلاد ما بعد 2011 من مسؤوليتهم تجاه هذا الخلل مهما كانت الأسباب المتراوحة بين أعذار فيها ما هو موضوعي وفيها ما هو يسعى لتغطية تقصير جلي وواضح.
بهذا المعنى نفهم كيف أثر الجانب الاقتصادي والاجتماعي في إضعاف عقيدة الشعب تجاه ثورته، وكذلك أعطى فرصة لكل متربص بثورة الحرية والكرامة للنيل من هذه الثورة مركزا على هذا الجانب الحساس الذي يلامس كل مواطن بمختلف شرائح المجتمع واتجاهاتهم.
وهذا ما جعلنا نصل الى ما حصل في 25 جويلية 2021 وحجم المقبولية التي وجدها الانقلاب على الدستور من قبل فئة لا بأس بها من فئات الشعب التونسي الذين اعتبروا ان ما حصل في 25 جويلية قد يمثل بابا من أبواب الاصلاح على مستويات عدة ومن بينها المستوى الاقتصادي رغم عاطفية وعدم واقعية هذا الرأي.
والأهم من هذا كله هو الاستفادة من هذا الدرس والتواضع تجاه أنفسنا اولا وامام الشعب ثانيا لنقف وقفة متجردة من كل عاطفة أو انحياز ثوري بغاية فهم الواقع والاستفادة من الدرس وعدم تكرار مثل هذا الأخطاء وسد هذه الثغرات إذا استعاد التونسيون – شعبا وسياسيين حلم الديمقراطية.
وخلاصة القول ان الثورة التونسية هي حدث على غاية كبرى من الأهمية لم يؤثر فقط في تونس بل أثر في العالم العربي كله، حيث تعبر هذه العدوى التي انتشرت للثورات في عدة البلدان العربية عن شوق هاته الشعوب للحرية وتحقيق حلم الديمقراطية.
لكن شهدت الثورة التونسية تعثرا كبيرا ولم تقدر على المحافظة على بريقها ولم تحقق أهدافها بل شهدت انتكاسات كبيرة وكانت هناك عديد العراقيل تشدها الى الوراء ومن أبرز هذه العراقيل المسألة الاقتصادية التي كانت أحد أبرز أسباب فشل الثورة التونسية.
يعتبر التركيز المفرط على الجانب الحقوقي والسياسي والدور النقابي السلبي الذي لعبه أساسا اتحاد الشغل وعدم الاستقرار الحكومي والدور السلبي للإعلام أهم الأسباب التي أدت الى عدم تحقيق نتائج اقتصادية ملموسة مما يساهم في تحسين أوضاع الشعب التونسي الاقتصادية ما بعد الثورة.
ويبقى الحل في وقفة تأمل ومصارحة حقيقية لتحمل مسؤولية هذا الفشل والسعي للاستفادة من أخطاء الماضي في سبيل التطلع لمستقبل أفضل، تكون فيه تونس بلد ديمقراطي، مزدهر اقتصاديا، يطيب فيه العيش، ويتسع لجميع التونسيين بمختلف توجهاتهم.