موجةٌ عارمةٌ الآن تجتاح وسائلَ التواصلِ الاجتماعي، تدعو -وتحت تأثير ما حدث في سوريا – إلى أن الخروجَ عن النهج السلمي هو الحلُّ في المشهدِ المصري.
ويخرجُ علينا، بكل أسفٍ، من يدّعي أنه باحثٌ في التاريخ، أو مثقفٌ، أو دارسٌ صاحبُ خبراتٍ، ليُذكِّرنا أن جماعةَ الإخوانِ منذ أن اتخذت النهجَ السلميَّ والنضالَ الدستوريَّ أصبحت ضحيةً مدجّنة. ويقول ساخرًا إن مقولةَ مرشد الإخوان: “سلميتنا أقوى من الرصاص”، سيبصقُ عليها التاريخ.
ومع النهجِ الخاطئِ من السلطة، والتضييق، والكبت، أصبح الشبابُ منبهرًا بهذه الدعواتِ إلى تغييرِ النهجِ وتركِ السلمية، بل وسار أيضًا في هذا الاتجاه غيرُ الشبابِ ممن يُفترض فيهم الحكمةُ وخبرةُ السنين.
وهنا يجبُ أن نتوقفَ، فللأسف نحن أمةٌ لا تتعلم من التجاربِ، ولا تقرأُ التاريخَ جيدًا.
إنَّ أيَّ محاولةٍ للخروجِ على أيِّ سلطةٍ بالسلاح، ولكي تكون مقاومةً مشروعةً، يجب أن تتحقق فيها ثلاثةُ شروطٍ:
1 . شرعيةٌ دينيةٌ
بمعنى أن يُجيزَها الثقاتُ من أهل العلم.
- شرعيةٌ مجتمعيةٌ
بمعنى أن يكون غالبُ المجتمعِ على قناعة، وأن تتوفرَ حاضنةٌ شعبيةٌ لهذا الخيار.
3 . شرعيةٌ دوليةٌ
أو على الأقل دعمٌ إقليميٌّ أو دوليٌّ من عددٍ من الدولِ ذاتِ الحيثية.
وإذا طُبّقت هذه الشروطُ على الواقعِ المصري، ستكون الإجابةُ أنه لا يوجدُ أيٌّ من هذه الشروطِ متحققًا؛ فلا يزالُ العديدُ من الثقاتِ من أهل العلمِ لا يُجيزون رفعَ السلاحِ على مؤسساتِ الدولة، وكذلك عامةُ الناسِ ترفضُ ذلك. وليس هناك أيُّ دعمٍ دوليٍّ أو إقليميٍّ لهذا التوجه، بل هناك رفضٌ مطلقٌ لهذا الخيار.
رأي الشيخِ البنا والغزالي والقرضاوي
وهنا يجدر بنا الإشارةُ إلى قول الإمامِ حسن البنا في رسالةِ المؤتمرِ الخامس عن استخدام القوة:
“وهم حين يستخدمون هذه القوةَ سيكونون شرفاءَ صرحاءَ، وسيُعلنونها، وسيتحملون مسؤوليتَها كاملةً أمام الله وأمام الناس. وهم حين يفعلون ذلك سيجعلونها موجَّهةً لا إلى الشعب، ولكن إلى أعدائهم من الخارج الذين يحولون بينهم وبين استقلالهم وحريتهم، ويعتدون على أوطانهم ومقدساتهم.”
الشيخُ حسن البنا يوضحُ أن استخدامَ القوةِ ليس موجهًا أبدًا ضد الشعبِ أو الوطن.
القوةُ تُستخدمُ فقط ضد الاحتلالِ أو الأعداءِ الخارجيين الذين يعتدون على حريةِ الأمةِ واستقلالِها.
هذا النصُّ يبرزُ بوضوحٍ موقفَه الرافضَ لاستخدامِ العنفِ أو القوةِ ضد الوطنِ ومؤسساتِه الشرعيةِ، ويؤكدُ أن الإصلاحَ يجب أن يكون داخليًا وسلميًا، بينما القوةُ موجهةٌ فقط ضد الاحتلالِ أو العدوانِ الخارجي.
موقف الشيخِ محمد الغزالي
الشيخُ محمد الغزالي، أحدُ أبرزِ علماءِ الإسلامِ في القرنِ العشرين، كان له موقفٌ واضحٌ وحاسمٌ تجاه مسألةِ استخدامِ القوةِ أو العنفِ ضد مؤسساتِ الدولة. الغزالي رفضَ بشكلٍ قاطعٍ اللجوءَ إلى العنفِ كوسيلةٍ للإصلاحِ أو التغييرِ السياسيِّ داخل الدولةِ الإسلاميةِ، ورأى أن ذلك يؤدي إلى الفوضى، ويهددُ وحدةَ الأمة، ويُضعفُ قوتَها أمام أعدائِها.
في كتابه “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، يقول الغزالي:
“إن رفعَ السلاحِ داخل الوطنِ ليس جهادًا، بل هو فتنة، ودماءُ المسلمين معصومةٌ، ولا يجوزُ أن تُراقَ إلا بحقٍّ بيّن. وأيُّ سعيٍ لإحداثِ التغييرِ بالعنفِ إنما هو عبثٌ بأمن الأمةِ واستقرارِها.”
وفي كتابه “قذائف الحق”، يقول:
“القوةُ التي يُباركُها الإسلامُ هي القوةُ التي تُستخدمُ في دفعِ عدوانٍ خارجيٍّ أو ردِّ احتلالٍ، أما القوةُ التي تُرفعُ على شعوبِ المسلمين فهي جريمةٌ تُناقضُ روحَ الإسلامِ وتعاليمَه.”
الخلاصةُ أن الشيخَ محمد الغزالي يرى أن:
استخدامَ القوةِ ضد مؤسساتِ الدولة ليس حلًا شرعيًا أو عمليًا.
وأن الإصلاحَ يجب أن يكون عبرَ العملِ الدعويِّ والفكريِّ السلمي.
وأن العنفُ الداخليُّ يؤدي إلى تدميرِ الأمةِ، ويُعدُّ فتنةً تُحرّمها الشريعة.
موقف الشيخ يوسف القرضاوي
أوضح الشيخُ القرضاوي أن الجهادَ بالسلاحِ يكون مشروعًا ضد الاحتلالِ الأجنبيِّ الذي يسلب الأرضَ والكرامةَ، وليس ضد الحكوماتِ الوطنيةِ، حتى وإن كانت ظالمة. ودعا إلى السعي للإصلاحِ عبر الوسائلِ المشروعةِ دون الإضرارِ بوحدةِ الأمة.
في كتابه “فقه الجهاد”، يقول الشيخ القرضاوي:
“رفعُ السلاحِ داخل الوطنِ يؤدي إلى إضعافِ الأمةِ، ويمنحُ أعداءَها الفرصةَ للتدخلِ والسيطرة. الجهادُ الشرعيُّ لا يكونُ إلا ضد العدوِّ الخارجي، أما العدلُ والإصلاحُ داخل الأوطانِ فمكانُه الدعوةُ السلميةُ والعملُ المجتمعيُّ.”
الخلاصةُ أن الشيخَ القرضاوي:
رفضَ بشكلٍ قاطعٍ استخدامَ القوةِ والعنفِ ضد مؤسساتِ الدولة.
و شددَ على أهميةِ الإصلاحِ السلميِّ والعملِ الدعويِّ لتحقيق العدالةِ والتغيير.
كما حذرَ من الغلوِّ والتطرفِ، ودعا إلى وحدةِ الأمةِ وتجنبِ الفتنِ الداخلية.
التجارب السابقة
ثم نأتي إلى مسألةِ التجاربِ السابقةِ في مصر. فقد خاضت الجماعةُ الإسلاميةُ في الثمانينياتِ والتسعينياتِ هذا التوجهَ، ثم انتهت إلى الفشلِ والتراجعِ عنه.
وفي دولٍ أخرى مثل الجزائر، خلال العشريةِ السوداء، ذهبت الجماعاتُ الإسلاميةُ إلى هذا الخيارِ، ثم بعد عشر سنواتٍ وعشراتِ الآلافِ من الضحايا، انتهت إلى أن هذا الخيارَ كان خطأً، وتم الصلحُ مع مؤسساتِ الدولةِ في عهدِ الرئيسِ عبد العزيز بوتفليقة.
وقد يقول قائل: “ولكن هذا الخيارَ نجح في سوريا”. وهنا أقول: ما أنجحَ الثورةَ السوريةَ مؤخرًا لم يكن الخيارَ العسكريَّ هو الحاسم، بل لعبت الدبلوماسيةُ التركيةُ الدورَ الأبرزَ والحاسمَ في تحييدِ روسيا وإيران.
شهادة لله ثم للتاريخ
أما أن يُتهم كلُّ من يدعو إلى التعقلِ بأنه مدجّنٌ وضعيفٌ ومتخاذل، فإن العكسَ هو الواقع. فكلُّ من يدعو إلى الخيارِ العسكريِّ بلا حكمةٍ ولا تعقلٍ هو -مع الأسف- أرعنٌ أهوجٌ، بل ومتهورٌ، وليس شجاعًا أو جسورًا مهما كان توجهه.
فليُعلن الجميع موقفَه واضحًا، لله أولًا ثم للتاريخ.