مقالات ورأى

 د. عدنان منصور يكتب : كرسيّ الاعتراف…!

منذ خمسين سنة وحتى اليوم، شهد لبنان حرباً أهليّة، واعتداءات «إسرائيلية»، وعدم استقرار سياسيّ، واقتصاديّ، وأمنيّ، واجتماعيّ، وفراغ رئاسيّ وحكوميّ من آن إلى آخر، في ظلّ سلطة لمنظومة سياسيّة فاسدة، لم تبالِ يوماً بكرامة وحياة شعب، وسمعة وطن وسيادته، ولا بحقوق المواطنين وتطلّعاتهم.


مسؤولون ما كان همّهم يوماً احترام الدستور، وتطبيق القوانين، وبناء دولة المؤسسات وتعزيز القضاء العادل النزيه، كي يحترمها العالم، ويتعاطى مع مسؤوليها بقدر عالٍ من الاعتبار والاحترام.


مسؤولون على مدى عقود تصرّفوا تصرّف الأتباع، والأزلام، وكانوا على الدوام قُصّراً، عاجزين، يلجأون إلى أولياء أمورهم في الخارج، يستجدونهم لإيجاد الحلول لمشاكلهم، وعيوبهم، وخلافاتهم، وعجزهم في كلّ صغيرة وكبيرة. في حين وصل الأمر بهؤلاء كي تقوم دول، وأشباه دول ترشدهم، توجّههم، تنصحهم، تأمرهم، وتملي عليهم ما يجب أن يفعلوه أو لا يفعلوه.


فليجلس هؤلاء الذين أداروا بلداً على كرسي الاعتراف، وليقولوا لنا، هل فعلاً القرار قرارهم؟! وهل فعلاً متحرّرون من إملاءات، وأوامر، وتعليمات ومطالب دول الخارج؟!

هل يجرؤ هؤلاء وهم على كرسيّ الاعتراف وأمامهم جهاز الكشف عن الكذب، ليقولوا بصوت عالٍ إنّ غالبيتهم لا يُؤتمرون، ولا ينفذون، ولا يخضعون لموجّهيهم من دول الخارج يتحكّمون برقابهم، ومواقفهم، وقراراتهم؟!

هل يجرؤ هؤلاء على القول إنهم بعمالتهم ورضوخهم لمطالب دول لا سيما الدولة العظمى لا يبحثون عندها، عن منصب او سلطة أو منفعة، أو مكرمة، أو الظفر برضاها؟!

ما الذي سيقوله جهاز كشف الكذب عنهم لو سئلوا عما إذا كانوا فعلاً غيارى على مصالح وطن وشعب، أم كانوا غيارى على امتيازاتهم ومنافعهم، ويكون جوابهم أنهم غيارى إلى أبعد الحدود على مصالح الوطن ومستقبل الشعب؟!

ما الذي سيقوله جهاز كشف الكذب لو سئل أحد من دعاة السيادة والحرية والكرامة، وهو على كرسيّ الاعتراف، إذا ما كان قراره مستقلاً، متحرّراً بالكامل من تأثير وإملاءات دول مهيمنة، ويقول بكلّ وقاحة: إنّ قراري سيادي ومستقلّ بالكامل؟! ما الذي سيقوله جهاز كشف الكذب عن مسؤول من المنظومة وهو على كرسي الاعتراف عندما يُسأل: هل خدمت بلدك بشرف وأمانة دون منفعة أو صفقة من هنا، أو هدر، أو عمولة من هناك، حققتها على حساب مال الدولة والشعب، ويكون جوابه أنه خدم بلده بشرف وأمانة؟!


ما الذي سيقوله جهاز كشف الكذب عن المسؤول وهو على كرسيّ الاعتراف لو سُئل: هل جعلتَ منصبك في خدمة الدولة، أم جعلت الدولة في خدمتك، ويكون جوابه: سخّرت حياتي وجعلت نفسي ومنصبي في خدمة الدولة وشعبها؟!


ما الذي سيقوله جهاز كشف الكذب عن الحريصين على السيادة الوطنيّة، إذا ما سُئلوا عن العدو «الإسرائيلي» المتربّص بلبنان: هل تعتبرون دولة الاحتلال عدوّة لكم تجب مواجهتها وتحرير الأرض منها، أم صديقة لكم وتجب مغازلتها والتطبيع معها، ويكون جوابهم أنّهم مع تحرير الأرض ومواجهة العدو ولو بالناظور؟!


ما الذي سيقوله جهاز كشف الكذب، لو سئل مسؤول هل تضحّي بنفسك من أجل الوطن، أم تضحّي بالوطن من أجلك، ويكون جوابه أنه يضحّي بنفسه وأبنائه من أجل الوطن؟!


ما الذي سيقوله جهاز كشف الكذب إذا ما سُئل المسؤول: من أين لك كلّ هذا؟! أهذا من عرق جبينك أم من عرق جبين الشعب، ويكون جوابه هذا من عملي وعرق جبيني، وكلّ ثروتي من فضل ربي!


ما الذي سيقوله جهاز كشف الكذب إذا ما سئل ممثلو الشعب لماذا لم تنتخبوا رئيساً للجمهورية بعد فراغ دام لأكثر من سنتين، ألأنكم فاشلون، كيديّون، أنانيون، متناحرون، متخاصمون، أم لأنكم تبحثون عن رئيس متميّز بفكره وأدائه يقود الدولة، ويقضي على الفساد، ويحاسب الفاسدين، ويطهّر مؤسسات الدولة من تجار الهيكل، وأن لا يكون مرتهناً لكم، ويعمل لخدمتكم، ويحمي مصالحكم، ويكون جوابهم: نبحث عن رئيس ينهض بلبنان، ليحقق الإصلاح الشامل، ويقضي على الفساد، ودون أن يكون مرتهن لنا!


ما الذي سيقوله جهاز كشف الكذب عن مسؤولي الدولة العميقة، وعن الذين نهبوا الخزينة وودائع الناس لو سئلوا: هل نهبتم المودعين وقوّضتم سمعة لبنان المالية، وجنيتم المال الحرام، أم أنكم أدّيتم عملكم بشرف، ونزاهة، وضمير حي، ويكون جوابهم: أدّينا عملنا بشرف، وحافظنا على «شرفنا»، ووعودنا لكم بحماية ودائعكم، وعملتكم الوطنيّة بكلّ مسؤولية، وأمانة، وضمير إنساني عالٍ؟!


ما الذي سيكتبه تاريخ لبنان الحديث عن منظومة سياسية استباحت قيم وطن ودمّرت مؤسساته، وأهلكت شعبه، لا حسيب ولا رقيب عليها. تفعل ما تشاء، والأزلام ومقاولو السياسة، والأتباع، والعبيد، والحاشية، والمنتفعون، والانتهازيون، والمنافقون، والمافياويون يصفقون ويهللون للذين أطاحوا بسمعة بلد، وكرامة شعب، وسيادة وطن، حيث لا شيء يردعهم، حتى جهاز كشف الكذب سيجد نفسه في نهاية الأمر، ينفجر من شدة «صدق» المسؤولين، الحكماء العقلاء، الزهاد، بالسلطة، والحكم، البعيدين عن المال الحرام، المسخّرين أنفسهم «لخدمة» الشعب ومصالحه، وتوفير «النعيم» و»الرخاء» له. رخاء وحكم شفاف، «نعم» به شعب لبنان بفرح عظيم، في ظلّ مسؤوليّة عالية لا مثيل لها في العالم كله، لزعماء ومسؤولين أداروا البلد على أكمل وجه منذ خمسين عاماً وحتى اليوم!


مع انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية، وبعد قحط شديد شهدتها الحياة السياسية اللبنانية، تتطلع أنظار كلّ اللبنانيين الشرفاء إلى العهد الجديد لتثبيت القرار السيادي الحر في الداخل والخارج، واقتلاع جذور الفساد والفاسدين، ووضع حدّ نهائيّ لمافيا البلد المتجذرة في الدولة العميقة، ووضع اللبنة الأساس لنهضة حقيقيّة جديدة للبنان.


إذا لم تنطلق سياسة التغيير في الأشهر الثلاثة الأولى، فمن الصعب بعد ذلك التعويل على أيّ إصلاح او بناء دولة القانون، لأنّ المنظومة السياسية التي أمعنت في فسادها، واستغلالها، وهيْمنت على القضاء وعطّلته، وحرفته عن رسالته ودوره، لن تسمح بأيّ تغيير أو تطويق لمصالحها، وصفقاتها، وامتيازاتها. هنا يكمن دور الرئيس العتيد للجمهورية في كسر نفوذ الدولة العميقة، وملاحقة الزمرة التي تديرها، وكانت السبب المباشر في إيصال لبنان إلى ما وصل إليه، والتي ستقف بكلّ قواها ونفوذها لإحباط أيّ إصلاح حقيقيّ يطالها في الشكل والأساس.
فخامة الرئيس! إنّها مهمتكم، وآمال اللبنانيين معلقة عليكم، وفي عهدتكم. فلتكن انطلاقة وثابة، وصفحة مشرقة، مشرّفة في تاريخ لبنان الحديث، واضرب حديداً حامياً لا نفع منه إنْ بَرَد.

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى