لم تكد التحليلات تنقطع في الأيام الماضية، عن الحديث بشأن المكاسب الاستراتيجية التي تحققت لأنقرة، جراء إطاحة المعارضة السورية بنظام بشّار الأسد، وإذا بها تخطف الأنظار مجدداً بنجاح دبلوماسي كبير تمثّل في إبرام وساطة بين الصومال وإثيوبيا، وصفها الرئيس رجب طيب أردوغان “بالاتفاق التاريخي”.
وقد وردت عبارة الرئيس أردوغان الأخيرة في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، عقد في العاصمة التركية أنقرة بتاريخ 11 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
في مستهل المؤتمر، ذكر الرئيس أردوغان أن البلدين اتفقا “على تنحية خلافاتهما والقضايا المتنازع عليها جانبا، والمضي قدما”، لتحقيق الازدهار المشترك.
وعلى ضوء ذلك، اتفق البلدان على خارطة طريق لحلحلة تلك الخلافات، ومن ثم وقع الزعيمان على بيان مشترك أطلق عليه اسم “إعلان أنقرة.”
وحتى لا نكرر هنا ما ورد في الأخبار بشأن “إعلان أنقرة”، سنكتفي بذكر بعض بنوده بما يُعين القارئ على فهم الملاحظات التي سنُبديها حول القضايا الخلافية القائمة بين البلدين، خصوصاً الإشارة إلى أن نجاح الوساطة يعتمد على قدرتها على مخاطبة الطرفين بإمكانية تحقيق مصالحهما بصورة سلمية عن طريق التفاوض؛ وبضمان جدية الطرفين في الالتزام ببنود الإعلان.
وبالأخص البنود المتعلقة بإقرار البلدين “بالفوائد المحتملة التي يمكن تحقيقها من وصول إثيوبيا الآمن إلى البحر، مع احترام سلامة أراضي الصومال” وما يتصل بذلك من اتفاق على “وضع ترتيبات تجارية تحقق المنفعة للطرفين من خلال إبرام اتفاقيات ثنائية مثل العقود والتأجير والترتيبات المشابهة لضمان وصول إثيوبيا الآمن والمستدام إلى البحر، بطريقة تحفظ سيادة جمهورية الصومال الفدرالية”.
مسار وقائع الأحداث
لقد أكد إعلان أنقرة أن الجانبين الصومالي والإثيوبي “قررا وبتسهيلات من تركيا، بدء المفاوضات الفنية في موعد أقصاه نهاية فبراير/شباط 2025، على أن تختتم المحادثات وتوقع نتائجها في غضون أربعة أشهر”، مع الإشارة إلى “تعهد الجانبين بحل أي اختلافات في تفسير بنود الإعلان من خلال الحوار السلمي وطلب مساعدة تركيا عند الحاجة.”
وبالنظر إلى مسار وقائع الأحداث التي شهدتها علاقة إثيوبيا والصومال خلال العام الجاري، فإن التوصل إلى هذا الاتفاق يعتبر انفراجا كبيرا في علاقات البلدين.
ولذلك فقد سارع المجتمع الدولي ساعة الإعلان عن الاتفاق، إلى إصدار تصريحات تشيد بإعلان أنقرة، أملاً بالطبع في أن يسهم في التخفيف من حالة الاحتقان والتوتر الذي شهدته العلاقات الصومالية الإثيوبية في الشهور الماضية، لا سيما تصريحات الولايات المتحدة وألمانيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.
والشاهد أن العلاقة بين الصومال وإثيوبيا كانت قد تدهورت بشكل كبير على خلفية توقيع إثيوبيا مذكرة تفاهم في مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، مع ما يسمى بجمهورية أرض الصومال (غير المعترف بها دوليا). وهي خطوة أدانتها مقديشو واعتبرتها انتهاكاً لسيادتها ووحدة أراضيها.
وبحسب ما جاء في تلك المذكرة، تعهد إقليم أرض الصومال بأن يمنح إثيوبيا ممراً مائياً بطول 20 كيلومتراً في مياه خليج عدن، وميناءً تجارياً وقاعدة بحرية لقواتها البحرية.
وفي المقابل، أبدت إثيوبيا الاستعداد للاعتراف باستقلال إقليم أرض الصومال (صومالي لاند) عن جمهورية الصومال الفيدرالية.
أثارت مذكرة التفاهم ردود فعل غاضبة من الصومال، مع التأكيد على “أنها ستتصدى لهذه الاتفاقية بكافة الوسائل القانونية”.
وقد تلقت الصومال دعماً من دول عديدة بما فيها الولايات المتحدة ومصر، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية، يتمحور حول التأكيد على احترام سيادة الصومال.
إلا أن التطور اللافت في هذا السياق، تمثّل في توقيع بروتوكول تعاون عسكري بين القاهرة ومقديشو في أغسطس/ آب الماضي، تلاه إرسال القاهرة مساعدات عسكرية إلى مقديشو، وإعلان مصر رغبتها في الانضمام إلى بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال.
ولم تتأخر إثيوبيا بالطبع في التعليق على هذه التطورات، حيث قالت إن من شأن هذه الخطوات أن تعصف باستقرار منطقة القرن الأفريقي، وتوعدت بأنها “لن تقف مكتوفة الأيدي”، إزاء التطورات التي قد “تؤدي بالإقليم إلى المجهول”.
وفي خطوة تدل على تصاعد الخلافات بين البلدين إلى احتدام إقليمي، عُقدت في أكتوبر/ تشرين الأول، قمة ثلاثية في العاصمة الإريترية أسمرة، شارك فيها الرئيس أسياس أفورقي ونظيراه المصري عبد الفتاح السيسي والصومالي حسن شيخ محمود.
إلى جانب ذلك، هدد الصومال في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بأنه سيطلب عدم التجديد للقوات الإثيوبية ضمن بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال، التي من المقرر أن تبدأ ولايتها الجديدة في يناير/ كانون الثاني القادم وتمتد من 2025 – 2029. وفي المقابل، أبدت مصر وجيبوتي رغبتهما بالمشاركة في بعثة الاتحاد الإفريقي الجديدة.
النجاح التركي
بالعودة إلى “إعلان أنقرة”، فإن أول شيء يمكن قوله بخصوص الاتفاقية، هو أن الوساطة التركية نجحت في نزع فتيل الأزمة وتمكنت من إقناع زعيمي البلدين بالجلوس والتفاوض، عوضا عن الاستمرار في الحملات الإعلامية ضد بعضهما البعض.
ومع أن الاتفاق يعتبر خطوة أوليّة مهمة للغاية، إلا أنه لا يعتبر حلاً نهائيا للخلافات، خصوصاً وأن في بنود الإعلان ما يُتيح للطرفين التذرع بسوء تفسير بنوده.
على سبيل المثال، ورد في الإعلان الإقرار باحترام سيادة أراضي الصومال، إلا أنه صمت عن مصير “اتفاقية التفاهم المشترك” التي وقعتها إثيوبيا مع إقليم أرض الصومال (صومالي لاند).
ولم يصدر عن إثيوبيا ما يُفيد بأنها ألغت الاتفاق.
ويبدو أن هذه المسألة ستشكل عقبة أمام المتفاوضين في الشهور القادمة، والشاهد على ذلك قيام وكالة الأنباء الإثيوبية -الرسمية -بنشر وحذف تغريدة على تطبيق “إكس” (تويتر سابقاً)، بعد ساعات قليلة فقط من صدور إعلان أنقرة، جاء فيها: “من خلال الاتفاق الذي تم بوساطة تركيا مع الصومال، أكدت إثيوبيا التزامها بحل النزاعات بطرق سلمية.
الإعلان يضمن حق إثيوبيا في الوصول إلى المنافذ البحرية، مع الالتزام بمذكرة التفاهم مع أرض الصومال، ويفند الادعاءات الباطلة بشأن غزو الصومال.”
ربما تكون التغريدة قد نشرت باجتهاد فرد من داخل الوكالة، ثم تداركت المؤسسة الأمر وحذفت التغريدة.
إلا أن هناك شواهد أو إن شئت قرائن سابقة، تؤكد لجوء إثيوبيا وخصوصاً رئيس وزرائها الحالي آبي أحمد، إلى أسلوب “المماطلة والإطالة” في التفاوض، من أجل كسب الوقت.
ومن أشهر الشواهد على هذا السلوك، طريقة تعاطي إثيوبيا مع مفاوضات سد النهضة، حيث لم تحصد مصر شيئا يذكر من كل جولات التفاوض التي استغرقت نحو أربعة عشر عاما.
بالنتيجة، أعلنت مصر في مارس/ آذار الماضي، تعليق مشاركتها في مفاوضات سد النهضة بسبب ما أسمته “تعنت الجانب الإثيوبي وعدم الوصول لحلول”.
في المقابل، قال رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في أغسطس/ آب الماضي، “يمكننا الإعلان عن اكتمال سد النهضة بنسبة 100% بحلول ديسمبر المقبل”.
المفارقة، أن آبي أحمد أعلن اكتمال بناء سد النهضة من طرف واحد، أي من دون مشاركة أو موافقة مصر والسودان، مع أن الرئيس عبد الفتاح السيسي كان قد “أخذ منه ميثاقاً غليظاً”، في مؤتمر صحفي عقب مباحثاتهما بالقاهرة في يونيو/ حزيران، 2018: “قل والله لن نقوم بأي ضرر بالمياه في مصر”. وكرر آبي أحمد القسم المغلظ أمام الكاميرات.
سوابق أبي أحمد
إضافة إلى ما سبق، فإن سجل آبي أحمد السياسي، حافل بعقد اتفاقيات مع الحلفاء، ثم التنصل منها بعد توريطهم في الأزمات، أو ببساطة حينما يشعر بأنه استنفد أغراضه منهم.
والشواهد على هذا النوع من الاتفاقيات كثيرة، لكن مساحة المقال لا تسعفنا في أن نأتي على ذكرها كلها.
وبالتالي، سنكتفي بالتذكير بالتحالف الذي ربطه بكل من الرئيس الإريتري أسياس أفورقي ونخب إقليم الأمهرا في يوليو 2018، أي بعد شهور من وصوله إلى السلطة، بادر آبي أحمد بعقد مصالحة مع إريتريا، أطلق عليها اسم اتفاقية “الإعلان المشترك للسلام والصداقة”، والتي كان من نتائجها إنهاء حالة العداء التي استمرت بين البلدين لأكثر من 20 عاماً.
ونتيجة لذلك، اختارت لجنة جائزة نوبل النرويجية رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للفوز بجائزة السلام لعام 2019.
وقالت اللجنة إنها منحته الجائزة “لجهوده من أجل التوصل إلى السلام وخدمة التعاون الدولي، وخصوصاً مبادرته الحاسمة التي هدفت إلى تسوية النزاع الحدودي مع إريتريا”.
أما بخصوص علاقة آبي أحمد بنخب الأمهرا، فقد بدأ تواصله معهم منذ وصوله إلى السلطة، من خلال نقده الشديد لحكم تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا وبصورة خاصة نقده الشديد لتجربة الحكم الفيدرالي الذي دشنته جبهة التغراي.
لم يكتف آبي أحمد بالتراجع عن نموذج الدولة الفيدرالية فحسب، بل بدأ بتقريب عناصر من نخب الأمهرا التي عملت في الأنظمة السابقة.
وعندما أعلن آبي أحمد في نوفمبر 2020 الحرب على إقليم التيغراي، تحت إطار ما أسماه “عملية إنفاذ سيادة القانون”، دخلت مليشيات الأمهرا وقوات الدفاع الإريترية إلى إقليم التيغراي، تقاتل إلى جانب قوات الحكومة الإثيوبية.
والحقيقة، فإن مليشيات الأمهرا وقوات الدفاع الإريترية، لم تشاركا في القتال في إقليم التيغراي فحسب، بل هناك تقارير أممية موثوقة تُفيدُ بارتكاب القوتين جرائم وفظائع كبيرة في الإقليم.
مع ذلك، لم يصمد التحالف بين الأطراف الثلاثة كثيراً، فبعد عامين من الحرب، وقع آبي أحمد، اتفاق سلام شامل مع جبهة تحرير التيغراي، أطلق عليه “اتفاق بريتوريا”.
والشاهد هنا، أن رئيس الوزراء آبي أحمد، أختار الذهاب إلى تسوية سلمية مع جبهة التيغراي، دون أن تشمل العملية حلفاءه من الأمهرا والإريتريين.
وبالنتيجة، انفرط عقد التحالف بين الثلاثة، وبات آبي أحمد يواجه تداعيات ذلك في إقليم الأمهرا، الذي يشهد تمرداً مسلحاً منذ أكثر من عام.
أهمية الوساطة
رغم المحاذير المذكورة أنفا، لا يمكن التقليل من أهمية الوساطة التركية في تخفيض التصعيد بين إثيوبيا والصومال ومن المأمول أن تمهد الطريق لفتح صفحة جديدة للتعاون بين البلدين.
ومن نافلة القول أيضا إن نجاح الوساطة سيعزز موقف تركيا باعتبارها وسيطاً موثوقاً في فض النزاعات، ويوسع بالتالي من نفوذها في منطقة القرن الإفريقي.
علاوة على ذلك، فإن الوساطة الأخيرة لم تأت بالأساس بالصدفة وإنما جاءت تتويجاً للعلاقات المميزة التي تربط تركيا بإثيوبيا والصومال. في إثيوبيا هناك حوالي 200 شركة تركية، وقد تجاوز حجم الاستثمار ما قيمته ملياري دولار.
فضلاً عن ذلك، فقد لعبت المسيّرات التي اشترتها الحكومة الإثيوبية من تركيا دوراً حاسماً في ترجيح كفتها واستعادة زمام السيطرة في حربها مع إقليم التيغراي في عام 2022. أما في الصومال، فإن العلاقات التركية الصومالية تبدو أكثر رسوخاً، حيث تمتلك تركيا أكبر قاعدة عسكرية لها في الخارج بمقديشو.
كما وقع البلدان في فبراير/شباط الماضي “اتفاقية إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي”، لدفع علاقات التعاون إلى آفاق أرحب.
إضافة إلى ما سبق، فإن إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، القيام بزيارة إلى إثيوبيا والصومال مطلع العام المقبل، يعتبر مؤشرا إيجابيا يدعو إلى التفاؤل بإمكانية توصل البلدين إلى تسوية الخلافات.