تتسارع الأحداث في مصر مع الكشف عن فضيحة لا يمكن السكوت عنها، حيث باتت قضية التحقيق مع 49 قاضياً في محاكم الاستئناف والابتدائية حديث الساعة في الأوساط القضائية والشعبية على حد سواء.
الأزمة التي لا تقتصر على التحقيقات نفسها وإنما تمتد لتكشف عن تدهور شامل في أوضاع القضاء المصري باتت تهدد ما تبقى من استقلالية المؤسسة القضائية في بلد عانى طويلاً من التدخلات السياسية في شؤونه. فالقضاء الذي كان يوماً ما يُعد الحصن الأخير للعدالة في مصر يواجه اليوم معركة وجود حقيقية.
القضية التي أثارت زوبعة حقيقية بدأت عندما قرر وزير العدل إحالة 48 قاضياً للتحقيق بتهمة التحدث في مجموعات خاصة بهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن تدهور أوضاعهم المالية والاجتماعية.
القضاة الذين عبروا عن غضبهم من تدهور امتيازاتهم وفقدان استقلالهم باتوا اليوم في مرمى الاتهام. لم يعد الأمر مجرد تعبير عن الاحتجاج ضد أوضاعهم المالية، بل تحول إلى صراع مفتوح بين القضاة والسلطة التنفيذية، محطماً كل الأوهام حول حياد القضاء واستقلاله.
السبب الأساسي لهذه الأزمة يعود إلى أن القضاة فقدوا العديد من امتيازاتهم السابقة وتحولوا إلى مجرد موظفين لدى السلطة التنفيذية دون أي حماية حقيقية لمصالحهم.
هذا لم يعد مجرد حديث عن انخفاض الرواتب، بل هو احتجاج ضد فقدان المعنى الحقيقي لاستقلال القضاء. هؤلاء القضاة الذين قضوا سنوات من حياتهم في خدمته، وجدوا أنفسهم في مواجهة مصير مجهول تحت وطأة الضغط السياسي والمالي. ومما زاد من حدة الأزمة أن بعض القضاة وصفوا الأوضاع بأنها “مذبحة قضائية” في إشارة إلى القمع المتزايد للأصوات المعارضة داخل السلك القضائي.
لكن المشكلة الأكبر تكمن في أن هذه الأزمة تتجاوز قضية الرواتب والامتيازات. إنها أزمة تتعلق أساساً بمحاولة تدمير أي شكل من أشكال الاستقلالية التي كان يتمتع بها القضاة.
فالتدخل المباشر من قبل السلطة التنفيذية في شؤون القضاء ليس مجرد أزمة حقوقية، بل هو تهديد حقيقي لديمقراطية البلاد واستقلال مؤسساتها.
القضاة الذين عبروا عن غضبهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي دفعوا ثمن رفضهم الخضوع لهذه الضغوط التي تهدد مصيرهم ومصير العدالة في مصر.
في خطوة مفاجئة، التقى وزير العدل المستشار عدنان الفنجري برئيس نادي قضاة مصر المستشار أبو الحسين فتحي قايد، وذلك في محاولة لتهدئة الأوضاع التي اشتعلت بعد إحالة القضاة للتحقيق.
وفي اللقاء، حاول الوزير تقديم تطمينات للقضاة بوعوده بتجميد الإجراءات الحالية لحين التوصل إلى حل. لكن ما بدا واضحاً هو أن الأزمة ليست قابلة للحل السريع، بل هي انعكاس لواقع قاسٍ، حيث يخضع القضاء لضغوط مستمرة لا يمكن تجاهلها.
خلال اللقاء، حاول الوزير تصوير نفسه على أنه الحريص على حل الأزمة، وطلب من رئيس النادي التدخل لتهدئة القضاة، محاولاً نزع فتيل التصعيد، الذي كان قد يصل إلى درجة الإعلان عن اعتصامات أو إضرابات قضائية.
الوزير حاول أن يُظهر نفسه وكأنه يحاول إيجاد حل، لكنه في الحقيقة كان يحاول كسب الوقت أمام تحركات أكبر قد تهدد استقرار المنظومة القضائية برمتها.
من جانبهم، تمسك القضاة بمواقفهم الرافضة لأي نوع من التدخلات في شؤونهم أو محاولة الضغط عليهم لتغيير مواقفهم. فالقضاة الذين قرروا أن يتحدثوا علانية عن أوضاعهم المزرية باتوا في مواجهة نظام يصر على إحكام قبضته على كل مفاصل الدولة.
لكن الأشد مرارة كان رفض وزير العدل طلب رئيس نادي القضاة بحفظ التحقيقات نهائياً، ليؤكد بذلك أن الأزمة لم تُحل بعد وأن السلطة التنفيذية لا تزال تفرض هيمنتها على القضاء.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف سيتعامل القضاء المصري مع هذه الأزمة التي تهدد جوهر عمله؟ هل سيظل القضاة صامتين أمام محاولات تقليص استقلالهم؟
وهل ستكون هذه القضية بداية لفتح ملف أوسع حول تدخلات السلطة التنفيذية في شؤون القضاء؟ المؤشرات الحالية تشير إلى أن الاستمرار في هذا المسار قد يخلق بيئة قضائية غير مستقلة، تهدد كل مبدأ من مبادئ العدالة.
القضية ليست مجرد تحقيق مع 49 قاضياً، بل هي انعكاس لأزمة مستمرة منذ سنوات، الأزمة التي تتعلق بمحاولة تحجيم دور القضاء وجعله مجرد أداة تنفيذية في يد السلطة السياسية.
إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن القضاء المصري قد يفقد آخر ما تبقى له من احترام وثقة من الشعب. وهذا سيكون أكبر كارثة ممكنة للمؤسسة القضائية التي يجب أن تكون صمام الأمان لحماية الحقوق وحفظ العدالة.