في مشهد يعكس الفوضى والفساد العميقين داخل قطاع الكهرباء في مصر، أصبح المواطن المصري ضحية لصراعات متفاقمة بين شركات توزيع الكهرباء التسع وشركة “شعاع”، التي تم تكليفها بقراءة عدادات الكهرباء على مستوى الجمهورية.
هذه الصراعات، التي كان من المفترض أن تدور في الخفاء بين هذه الكيانات، تحولت إلى كابوس يومي للمواطنين الذين يعانون من فواتير كهرباء متضخمة وغير مبررة، تزيد من أعبائهم الاقتصادية في ظل ظروف معيشية صعبة بالفعل.
وفي الوقت الذي كان من المفترض أن تتدخل الحكومة المصرية ووزارة الكهرباء والطاقة المتجددة لحماية حقوق المواطنين، يبدو أنهما متورطتان في هذا الفساد، إن لم يكن بالتواطؤ المباشر، فمن خلال تجاهلهما المتعمد لأزمة الفواتير المتكررة.
لقد أصبح المواطن المصري يواجه تحدياً غير عادل كل شهر عندما تصله فواتير الكهرباء، والتي غالباً ما تكون غير مطابقة لقراءات عداداته.
في حالات كثيرة، وصلت أخطاء الفواتير إلى مستويات غير مقبولة، مع وجود فروق تصل إلى 200 كيلو وات ساعة في بعض الفواتير.
هذا التضخم غير المبرر في الفواتير ليس مجرد خطأ إداري، بل هو نتيجة تلاعب ممنهج يتم على حساب المواطنين العاديين، ويصب في صالح شركات توزيع الكهرباء التي تستخدم أساليب جباية غير قانونية لزيادة أرباحها.
صراعات لا تنتهي بين “شعاع” وشركات توزيع الكهرباء التسع
يتركز الصراع الأكبر بين شركة “شعاع”، المسؤولة عن قراءة عدادات الكهرباء في مختلف المحافظات، وشركات توزيع الكهرباء التسع، مثل القناة وجنوب وشمال القاهرة ومصر العليا والبحيرة والدلتا.
هذه الشركات، التي من المفترض أن تكون مسؤولة عن إصدار فواتير دقيقة تعكس الاستهلاك الحقيقي للمواطنين، تلجأ إلى طرق ملتوية لتحقيق مكاسب إضافية. تعتمد هذه الشركات على ما يُسمى بـ”متوسط الاستهلاك” بدلاً من الاعتماد على قراءات العدادات الفعلية، مما يؤدي إلى إصدار فواتير مبالغ فيها بشكل غير منطقي.
في مناطق مثل “الإبراهيمية”، “منيا القمح”، و”بلبيس”، اشتكى المواطنون من عدم دقة الفواتير التي تصدرها شركة القناة لتوزيع الكهرباء.
وفي سوهاج، التي تخضع لسلطة شركة مصر العليا لتوزيع الكهرباء، ظهرت أخطاء فاضحة في فواتير الكهرباء، حيث تم إصدار فواتير بأرقام أقل بكثير من القراءة الحقيقية للعدادات. هذه الأخطاء ليست عشوائية أو عرضية، بل هي جزء من نمط فساد مؤسسي تحكمه مصالح داخلية لشركات توزيع الكهرباء.
شركة “شعاع” من جانبها لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه الاتهامات، بل سارعت إلى الدفاع عن نفسها مؤكدة أن أي أخطاء في الفواتير ليست بسببها. تعتمد “شعاع” على نظام تقني يعتمد على التقاط صورة لعداد الكهرباء بدلاً من الاعتماد على الكشافين التقليديين، ما يجعل قراءاتها دقيقة وغير قابلة للتلاعب.
وتتهم “شعاع” شركات توزيع الكهرباء بتجاهل هذه القراءات الدقيقة واستخدام حسابات متوسطة مضللة لزيادة قيمة الفواتير بشكل مصطنع. الشركة رفعت شعار “الصورة مابتكدبش” لتؤكد على صحة البيانات التي تقدمها، ولكن الفوضى الإدارية والتواطؤ داخل شركات التوزيع يظل هو العامل الأساسي في إهدار حقوق المواطنين.
برنامج القراءة الموحد .. أملٌ ضائع في ظل الفساد المستشري
في محاولة للحد من هذه الفوضى، تم إطلاق برنامج القراءة الموحد، الذي يعتمد على إرسال صورة العداد مباشرة عبر الإنترنت إلى شركات التوزيع دون تدخل العنصر البشري، وهو ما يفترض أنه يقضي تماماً على أخطاء الفواتير.
ولكن، ورغم هذه التقنية المتقدمة، لا تزال شركات توزيع الكهرباء التسع تتجاهل البيانات الحقيقية وتصدر فواتير بناءً على متوسطات استهلاك بعيدة عن الواقع. هذه الشركات، التي تستغل ضعف الرقابة الحكومية، تستمر في ممارساتها الفاسدة التي تضر بمصالح المواطنين.
ولم يكن ذلك كافياً لحل الأزمة، بل يبدو أن وزارة الكهرباء نفسها تفضل التستر على هذا الفساد بدلاً من مواجهته. فبينما أعلنت الوزارة أنها تثق في شركة “شعاع” أكثر من ثقتها في شركات توزيع الكهرباء، لم تتخذ أي خطوات حقيقية لوقف هذه الانتهاكات المتكررة التي يدفع ثمنها المواطن البسيط.
بل إن الوزارة بدت وكأنها غير معنية تماماً بشكاوى المواطنين التي تتزايد يوماً بعد يوم، مما يعكس حالة تقاعس فاضحة في القيام بدورها الرقابي.
شكاوى بلا استجابة .. وفساد يزداد تفشياً
المواطنون في مختلف المحافظات بدأوا يفقدون الثقة في النظام الإداري لقطاع الكهرباء. الشكاوى التي تتعلق بفواتير الكهرباء لم تعد مجرد حالات فردية، بل تحولت إلى ظاهرة منتشرة تعكس مدى الفساد الذي ينخر في هذا القطاع.
في خلال الشهرين الماضيين فقط، شهدت شركات مثل القناة وجنوب وشمال القاهرة ومصر العليا والبحيرة والدلتا ارتفاعاً ملحوظاً في عدد شكاوى الأخطاء المتعلقة بالفواتير، ورغم ذلك لم تحرك الحكومة ساكناً.
وبدلًا من أن تعمل الحكومة على معالجة هذه الشكاوى وتقديم حلول جذرية، نجدها تواصل سياستها المعتادة في التملص من المسؤولية.
في حين أن وزارة الكهرباء تقف متفرجة على ما يحدث، تعاني شركات التوزيع من فساد إداري ومالي يستنزف حقوق المواطنين. يبدو أن هناك جهات نافذة داخل هذه الشركات ترفض التعامل بشفافية وتواصل استخدام أساليب ملتوية لضمان زيادة الأرباح بطرق غير قانونية.
تلاعب ممنهج وتربح على حساب المواطن
إن الاعتماد على متوسط الاستهلاك كسياسة ثابتة لتقدير فواتير الكهرباء ليس إلا خدعة تستخدمها شركات توزيع الكهرباء لتحقيق أرباح إضافية.
من خلال تضخيم قيمة الفواتير، تضاعف الشركات أرباحها على حساب المواطن الذي يدفع مبالغ تفوق استهلاكه الحقيقي بكثير. ورغم أن التكنولوجيا الحديثة المتاحة مثل برنامج القراءة الموحد كان يمكن أن يوفر دقة متناهية في قراءة العدادات، إلا أن هذه الشركات تفضل الاستمرار في التلاعب بالأرقام لخدمة مصالحها الخاصة.
وفي هذا السياق، يبدو أن الفساد في شركات توزيع الكهرباء قد أصبح جزءاً من الثقافة الإدارية السائدة، حيث تُفضل هذه الشركات التضحية بمصلحة المواطن لتحقيق مكاسب شخصية لموظفيها ومسؤوليها.
لم يعد الأمر يتعلق بأخطاء فردية أو حالات استثنائية، بل تحول إلى سياسة مؤسسية تديرها شركات التوزيع دون أي رقابة أو محاسبة.
الحكومة ووزارة الكهرباء .. شريك صامت في الفساد
إذا كان المواطن يواجه كل هذه الصعوبات في فهم ومتابعة استهلاكه الفعلي للكهرباء، فإن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الحكومة ووزارة الكهرباء.
ولكن بدلاً من أن تتخذ الحكومة خطوات حاسمة لمعالجة هذه المشكلة المزمنة، نجدها تتواطأ بشكل أو بآخر مع هذا الفساد المستشري. تجاهل الحكومة لأزمة الفواتير وعدم اتخاذ أي إجراءات عقابية ضد الشركات المتورطة يعكس حالة من العجز المتعمد والتقاعس الذي يضر بمصلحة المواطن.
وزارة الكهرباء من جهتها لا تزال تعتمد على أساليب قديمة لا تلبي احتياجات العصر الحديث. فبدلاً من تطوير النظام الرقابي وتفعيل آليات صارمة لضمان دقة الفواتير، نجد الوزارة تتجاهل شكاوى المواطنين وتستمر في دعم الشركات المتورطة في الفساد. حتى مع وجود الأدلة على التلاعب المتكرر في الفواتير، لا تبدو الوزارة مستعدة للتدخل بشكل حقيقي لحل الأزمة.
ما هو الحل؟
إن الأزمة التي يعاني منها قطاع الكهرباء في مصر تتطلب حلاً جذرياً يبدأ بإعادة هيكلة كاملة لهذا القطاع الفاسد.
لا يمكن الاعتماد فقط على تحسين التقنيات أو تطوير البرامج مثل برنامج القراءة الموحد، بل يجب أن يتم تطهير هذا القطاع من الفساد الإداري والمالي الذي يعصف به. ويتطلب ذلك اتخاذ خطوات جادة لمحاكمة المسؤولين عن هذه الفوضى ومحاسبتهم على ما تسببوا به من ضرر للمواطنين.
كما يجب على الحكومة المصرية أن تتحمل مسؤوليتها تجاه المواطنين وتعيد النظر في دورها الرقابي. يجب أن تكون هناك شفافية تامة في التعامل مع شكاوى الفواتير وأن يتم تشكيل لجان تحقيق مستقلة لمراجعة أداء شركات توزيع الكهرباء.
فقط من خلال اتخاذ هذه الخطوات يمكن إنقاذ قطاع الكهرباء من هذا الانهيار الذي يعاني منه وحماية حقوق المواطنين من الانتهاكات المستمرة التي ترتكبها هذه الشركات