علماء مصر ضحايا القمع: أكاديميون وسياسيون يواجهون التصفية والموت في سجون مصر
في مشهد مؤلم يكشف عن حجم المعاناة التي يعيشها علماء ومفكرون مصريون بسبب قمع النظام الحاكم، رحل السياسي والأكاديمي البارز يحيى القزاز، الذي فارق الحياة يوم الأربعاء الماضي عن عمر يناهز 68 عاماً، بعد صراع طويل مع الأوضاع السياسية في مصر.
القزاز الذي كان من أبرز المعارضين للنظام، توفي وهو يحمل هموم وطنه وآلامه، وأدى نشاطه السياسي منذ عام 2014 إلى استهدافه من قبل النظام، حيث كان يتعرض للضغط من أجل تغيير مواقفه، ولكن رغم ذلك، ظل ثابتاً على مواقفه حتى آخر لحظاته.
لقد كان القزاز جزءاً من مجموعة من الأكاديميين والمفكرين الذين دفعوا ثمن آرائهم السياسية بحرية، وكان يقاوم بشدة محاولات السلطة لتكميم الأفواه وإغلاق الحريات العامة في مصر.
وقد ظلت نصائحه للسلطة، التي كان يقدمها في فترات مختلفة من حياته، تتعرض للتجاهل القاسي، ليجد نفسه في النهاية ضحية لهذا النظام الذي كان يراه ظالماً، يلاحق كل من يعارضه أو يفكر في تقديم نصيحة صادقة. كان يحيى القزاز مثالاً على الأكاديميين الذين يموتون قهراً على وطنهم الذي ظلوا يراعونه ويعطون من جهدهم لخدمته، ولكنهم في النهاية يجدون أنفسهم ضحايا القمع المتواصل.
لم يكن يحيى القزاز هو الوحيد الذي دفع ثمن معارضته السياسية في مصر. فقد تأثرت حياة العديد من الشخصيات السياسية والأكاديمية بهذا الصراع المرير بين المثقفين والنظام الحاكم. فالأكاديمي والسياسي حازم حسني، الذي كان يشغل منصب أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، يعد من أبرز الشخصيات التي تعرضت للاعتقال بسبب نشاطاته السياسية.
اعتقل حازم حسني في عام 2019 بعد مشاركته في الحملة الانتخابية للفريق سامي عنان في انتخابات الرئاسة عام 2018، وهو الفريق الذي كان يُعد منافساً قوياً للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. وقد ظل حسني في السجن حتى عام 2021، حيث تم الإفراج عنه، إلا أن حياته لم تكن كما كانت قبل الاعتقال. فقد فرضت عليه الإقامة الجبرية، ما أثر بشكل كبير على حالته النفسية والصحية، ليموت في فبراير من عام 2024 عن عمر يناهز 73 عاماً، تاركاً وراءه إرثاً من النشاط السياسي الذي كانت أصداؤه تتردد في أروقة الجامعات والمنتديات السياسية.
أما القيادي في جماعة الإخوان المسلمين والطبيب والسياسي عصام العريان، الذي توفي قبل أربع سنوات في سجنه بعد أن اعتقل منذ عام 2014، فيعد أحد أبرز الأمثلة على التضحيات التي دفعها المعارضون في مصر. العريان، الذي عُرف بنضاله المستمر منذ شبابه ضد الأنظمة الديكتاتورية في مصر، قضى سنوات طويلة في السجون، حيث حكم عليه بعقوبات قاسية، ومنها أكثر من حكم مؤبد وأحكام بالإعدام. وعلى الرغم من وفاته في السجن في عام 2020 عن عمر يناهز 66 عاماً، فقد أيدت محكمة النقض في عام 2021 الحكم بالإعدام عليه بعد وفاته، وهو ما يعكس ممارسات السلطة المصرية في التعامل مع المعارضين حتى بعد رحيلهم.
وفي سياق مماثل، نجد الكاتب الصحفي محمد منير، الذي كان من أبرز الوجوه الإعلامية المعارضة للنظام المصري. تم اعتقاله في عام 2020 بتهمة نشر أخبار كاذبة، ليقضي أسبوعين في السجن قبل أن يتم الإفراج عنه بسبب تدهور حالته الصحية. وعقب الإفراج عنه، تعرض منير للإصابة بفيروس كورونا، ليتوفي عن عمر 64 عاماً، بعد أيام من خروجه من السجن. منير كان من بين الصحفيين الذين عملوا على كشف انتهاكات السلطة الحاكمة، وهو ما جعله عرضة للقمع والسجن، ليواجه في النهاية مصير العديد من الصحفيين والكتاب الذين دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم المعارضة.
وتأتي هذه الحكايات لتكشف عن حقيقة مأساوية يعيشها العديد من الأكاديميين والسياسيين والمفكرين في مصر. فهم ليسوا فقط ضحايا للأنظمة القمعية، بل هم ضحايا وطن أحبوه بكل ما يملكون، وساهموا بعلمهم وخبراتهم في بناءه وتقدمه. ولكنهم في النهاية يجدون أنفسهم ضائعين في غياهب السجون أو يعيشون تحت ضغط القمع المستمر، وفي كثير من الحالات، يتعرضون للوفاة المبكرة بسبب هذه الظروف القاسية.
هذه الحكايات ليست سوى غيض من فيض مئات المعتقلين والمغيبين في السجون المصرية، الذين يواجهون نفس المصير بسبب آرائهم ومواقفهم السياسية. أكاديميون، أطباء، مهندسون، نقابيون، وعمال، جميعهم يقبعون خلف القضبان منذ سنوات، يواجهون مصيراً مجهولاً بسبب معارضتهم لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. هؤلاء المعتقلون، الذين كانوا يوماً ما جزءاً من حركة علمية وفكرية في مصر، يعانون في صمت، وينتظرون وعد الحرية الذي لا يأتي، في وقت تزداد فيه حالة القمع والاضطهاد في البلاد.
من المؤسف أن هذه القصص ليست مجرد حكايات فردية، بل هي جزء من منظومة سياسية تقوم على تكميم الأفواه وإسكات المعارضين، سواء كانوا من الأكاديميين أو السياسيين أو الصحفيين. النظام المصري الحالي، الذي يبدو مصمماً على إخماد كل صوت معارض، يواصل ممارساته القمعية في ظل غياب أي آفاق حقيقية للحرية أو الإصلاح السياسي. وفيما يتنقل العلماء والنشطاء بين السجون والمنافي، لا يزال الوطن غارقاً في حالة من الصمت القاتل، حيث لا يوجد مكان للمعارضة أو النقد، سواء في الشارع أو في الجامعات أو في وسائل الإعلام.
ويظل السؤال الأهم: هل سيتوقف هذا النزيف؟ هل ستتاح الفرصة لهؤلاء العلماء والمفكرين لاستعادة مكانتهم والمساهمة في بناء وطنهم، أم سيظل القمع هو السمة الغالبة على حياتهم؟ الواقع المؤلم الذي يعيشه هؤلاء المفكرون يجعل من الصعب تقديم إجابة واضحة، لكن ما هو مؤكد أن هذا الصراع سيظل مستمراً طالما أن هناك من يبقى مستعداً للموت من أجل فكرة أو وطن.
إن وفاة هذه الشخصيات، وغيرها من الشخصيات التي لا نعرف عنها، تكشف عن حجم المعاناة التي يعيشها المفكرون في مصر اليوم، وعن الثمن الباهظ الذي يدفعه من يعارض النظام القائم.