في خطوة تكشف عن مدى التفريط في تحقيق الأمن الغذائي للبلاد وعدم الجدية في دعم البحث العلمي الزراعي، أعلنت وزارة الزراعة عن اعتماد عشرين صنفًا جديدًا من البذور، في قرار يعكس تراجعًا كبيرًا في قدرة الحكومة على تحقيق الاكتفاء الذاتي.
القرار الذي نشرته جريدة الوقائع يكشف عن إصرار الحكومة على مواصلة سياسة الاعتماد على الخارج في توفير احتياجات مصر من التقاوي الزراعية، وهي سياسة تستمر في ضرب جهود البحث المحلي في الصميم، وتهدد بمستقبل زراعي مظلم.
الغريب في القرار أن القائمة المعلنة تضم 18 صنفًا من الأصناف الأجنبية، في حين أن هناك صنفين فقط تم تطويرهما محليًا. وبدلاً من التركيز على تعزيز قدرة المؤسسات المحلية على تطوير بذور محلية متطورة تلبي احتياجات الأسواق الزراعية المصرية، يتجه القرار لتقديم حماية قانونية للأصناف الأجنبية التي تهيمن على السوق، ما يعني أن المزارعين سيضطرون إلى شراء هذه البذور من الشركات المنتجة، تحت طائلة العقوبات التي قد تصل إلى الحبس في حالة استخدامها بدون تراخيص رسمية. هذا الإجراء يسلط الضوء على فشل الحكومة في ضمان حقوق المزارعين وتشجيع الابتكار الزراعي المحلي.
ما يثير القلق بشكل أكبر هو أن الأصناف المعتمدة تنتمي إلى محاصيل استراتيجية حيوية مثل الذرة الصفراء التي تعد مكونًا رئيسيًا في صناعة الأعلاف، بالإضافة إلى الخضروات الأساسية مثل الخيار والطماطم والشمام والبطيخ. هذه المحاصيل تعد جزءًا أساسيًا من الأمن الغذائي المصري، لكن استيراد التقاوي لهذه المحاصيل بشكل شبه كامل من الخارج يفتح المجال للشركات العالمية لفرض سيطرتها على السوق، مما يجعل البلاد عرضة لارتفاعات أسعار غير مبررة. هكذا، تصبح مصر في وضع غير مريح حيث تتحكم الشركات العالمية في أسعار المنتجات الزراعية الأساسية.
وإذا نظرنا إلى الأصناف المحلية المعتمدة، نجد أن الأصناف المعتمدة محليًا هي نوعان فقط، هما الأرز “عرابي 5″ و”عرابي 6”. وهذه الأصناف قد طُوّرت في سنوات ماضية من قبل أحد علماء الوراثة، لكن على الرغم من أهمية هذه الأنواع محليًا، فإننا نلاحظ أن الرجل الذي قام بتطوير هذه الأصناف لم يتمكن من تسجيلها رسميًا طوال أكثر من 15 عامًا بسبب القيود البيروقراطية والفساد المستشري في القطاع. وهذا يشير إلى عجز الحكومة المصريّة عن توفير بيئة ملائمة للبحث العلمي الزراعي المحلي، رغم الإمكانيات المتاحة.
من المثير أن الحكومة تُظهر قلة اهتمام تجاه البحث العلمي الزراعي، حيث يستمر الاعتماد على الشركات الأجنبية في توفير معظم احتياجات البلاد من التقاوي. ويؤدي هذا إلى تراجع شديد في أعداد الأصناف المحلية، حيث يتم استيراد نحو 98% من احتياجات مصر من بذور الخضروات، بالإضافة إلى الحاجة المستمرة لاستيراد معظم الذرة. هذا الأمر يضع الدولة في موقف حرج، حيث أصبحت في قبضة الشركات الأجنبية التي تتحكم في السوق المحلي وتفرض أسعارًا مرتفعة على المزارعين، مما يزيد من معاناتهم.
أزمة التمويل التي يعاني منها البحث العلمي الزراعي هي أحد الأسباب الرئيسية التي تعرقل تقدم القطاع الزراعي في مصر. تظل الأموال المخصصة للبحث الزراعي ضئيلة للغاية مقارنة بالاحتياجات الفعلية للمزارعين، وهو ما يجعل الحكومة المصرية عجزاء أمام مواجهة تحديات القطاع الزراعي. فالأنظمة الزراعية المستوردة التي تعتمد على بذور شركات عالمية لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تحقق الاستدامة في الإنتاج الزراعي المحلي، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة.
التقاعس الحكومي في دعم البحث العلمي الزراعي والتوجه المستمر للاعتماد على التقاوي الأجنبية يتفاقم يومًا بعد يوم. هذه السياسة تضر بالمزارعين بشكل مباشر، حيث تفرض عليهم زيادة في تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار البذور المستوردة. كما أن هذا الوضع يزيد من أزمة الأمن الغذائي في مصر، مما يعرض البلاد لمزيد من التبعية الاقتصادية لدول أخرى ويقيد قدرتها على التحكم في أسعار منتجاتها الزراعية.
من الواضح أن هناك تجاهلاً تامًا لاحتياجات القطاع الزراعي المحلي، كما أن هناك فسادًا مستشريًا في مراكز اتخاذ القرار داخل الحكومة المصرية. فبينما يسعى المزارعون في مصر إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، تتجاهل الحكومة هذه المطالب وتعزز من هيمنة الشركات الأجنبية على السوق الزراعي المصري. لم يعد هناك مجال للحديث عن استراتيجيات تطوير حقيقية، فالمؤشرات كلها تشير إلى أن مصر باتت على أعتاب أزمة زراعية تهدد استقرارها الغذائي في المستقبل القريب.
إن استمرار هذا الوضع من التدهور في مجال البحث الزراعي يمثل تهديدًا حقيقيًا للقطاع الزراعي ولأمن مصر الغذائي. يجب على الحكومة أن تدرك أن الاعتماد على الخارج في توفير احتياجاتها الزراعية لن يؤدي إلا إلى مزيد من الضعف والفشل في تحقيق التنمية المستدامة. إذا استمرت الحكومة في تجاهل دعم البحث العلمي الزراعي وفرض القيود على المزارعين المحليين، فإن مصر ستظل رهينة للقرارات التي تتخذها الشركات الكبرى، في وقت تصبح فيه القدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي أمرًا بعيد المنال.