لا يزال قطاع الكهرباء في مصر يعاني من أزمة طاحنة، أزمة ليس لها حل إلا بعد تصحيح جذري للقطاع الذي أصبح يواجه فسادًا هائلًا، يسهم في إهدار مليارات الجنيهات من المال العام.
هذه الأموال التي كان من الممكن أن تُستغل لتطوير القطاع وتحسين مستوى الخدمة الكهربائية في كافة أنحاء الجمهورية، باتت في طي النسيان، بسبب تقاعس الحكومة المصرية والشركة القابضة لكهرباء مصر ووزارة الكهرباء، التي تتشارك جميعها في مسئولية إهدار هذه الثروات الوطنية.
ولعل هذا التقرير يقوم بنشره موقع “أخبار الغد” هو بمثابة توثيق لما يُرتكب من فساد داخل هذه المؤسسات الحكومية، والتي تقف وراء تدهور الوضع المعيشي للمواطنين بسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء.
الفساد في قطاع الكهرباء: محطات متهالكة وصفقات مشبوهة
إن الواقع الذي نعيشه اليوم يشير بوضوح إلى أن كلًا من المدير التنفيذي للشركة القابضة لكهرباء مصر، نواب المدير التنفيذي، ووزير الكهرباء، بل وحتى رئيس الوزراء، هم المسؤولون عن هذا الوضع المأساوي، الذي يزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
هؤلاء المسؤولون، الذين يجب أن يسهروا على توفير الطاقة بأعلى جودة وأقل تكلفة للمواطنين، اختاروا أن يغضوا الطرف عن الفساد المستشري داخل قطاع الكهرباء. وعلى الرغم من أن الحكومة قد تكبدت خسائر فادحة نتيجة هذا الفساد، إلا أن أحدًا لم يُحاسب أو يُعاقب حتى الآن.
أحد أكثر الأمثلة فظاعة على هذا الفساد هو استيراد 31 محطة كهرباء متهالكة تحت مسمى “محطات جديدة”، حيث تم التلاعب في المستندات والعقود، لتظهر هذه المحطات على أنها جديدة تمامًا، بينما هي محطات مستعملة قديمة، غير صالحة للعمل على المدى الطويل.
مافيا الفساد: رشاوى وتهالك المحطات
هذه المحطات تم استيرادها من شركات دولية مشبوهة مثل ألستوم وبجسكو، اللتين تورطتا في تقديم رشاوى للمسؤولين في الشركة القابضة لكهرباء مصر، لتسهيل إرساء مناقصات لصالح هذه الشركات. هذه الصفقات لم يتم التحقيق فيها بشكل جاد حتى اليوم، مما يعكس حجم الفساد الذي ينخر في هذا القطاع الحيوي.
إن هذه المحطات، التي تُركت لتعمل بأقصى طاقتها، أصبحت تستهلك كميات ضخمة من الوقود وتسببت في إهدار طاقة مهولة. وهذه المحطات، على الرغم من أنها كانت من المفترض أن تحسن قدرة الشبكة الكهربائية، إلا أنها زادت من الفقد في الطاقة بنسبة أكبر بكثير مما تم الإعلان عنه.
فالمسؤولون في الشركة القابضة لكهرباء مصر ووزارة الكهرباء يتجاهلون الحقيقة المرة، وهي أن الفقد الأكبر في الطاقة لا يحدث خلال عملية النقل أو التوزيع، كما يدعي البعض، بل يحدث بشكل رئيسي داخل محطات توليد الكهرباء نفسها، نتيجة لكفاءتها المتدنية.
وهذا هو ما يجعل الوضع في قطاع الكهرباء في مصر أكثر تعقيدًا، حيث يتم إخفاء هذا الفقد الكبير ويُحمل المواطنون المسؤولية عن سرقات الكهرباء، وهي حجج واهية لا تستند إلى حقائق.
إضافة إلى ذلك، فإن أحد أبرز الأسباب التي تقف وراء هذه الأزمة هو الاعتماد شبه الكامل على الوقود الأحفوري مثل الغاز الطبيعي والمازوت في تشغيل محطات الكهرباء.
الإهدار الفادح في الطاقة: تأثير الحرارة على كفاءة المحطات
في وقت يعاني فيه قطاع الكهرباء من نقص حاد في الطاقة بسبب ارتفاع درجات الحرارة، فإن محطات توليد الكهرباء تفقد نحو 50% من قدرتها الإنتاجية عندما تصل درجات الحرارة إلى 45 درجة مئوية أو أعلى، مما يؤدي إلى تقليل القدرة الإنتاجية للشبكة الكهربائية بشكل ملحوظ.
وكل درجة حرارة إضافية فوق الـ 35 درجة مئوية تؤدي إلى فقد 1% من القدرة الإنتاجية لكل محطة كهرباء، وهو ما يسبب فجوة كبيرة في تلبية احتياجات المواطنين من الكهرباء.
كما أن مشكلة انقطاع الكهرباء المزمن ليست سوى نتيجة مباشرة لسوء الإدارة وعدم استثمار الدولة في مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. في الواقع، مصر تمتلك طاقة شمسية هائلة، لكنها تُهدر يومًا بعد يوم بسبب إهمال الحكومة وتجاهلها لفرص كبيرة يمكن أن تساهم بشكل فعال في حل أزمة الطاقة.
ومن هنا يأتي التواطؤ الواضح بين المسؤولين في وزارة الكهرباء والشركة القابضة مع مافيا الفساد التي تعارض أي تقدم حقيقي في مجال الطاقة المتجددة.
هذه المافيا تعمل على تعطيل المشاريع التي تهدف إلى تحويل مصر إلى مركز للطاقة المتجددة في المنطقة، بل وتؤدي إلى توريد محطات كهرباء قديمة تعمل بنصف طاقتها الإنتاجية، مما يزيد من أزمة انقطاع الكهرباء ويضاعف من تكلفة الوقود.
استيراد محطات كهرباء متهالكة: هل هناك مافيا تقف خلف هذه الصفقات؟
لكن الوضع في مصر ليس فقط محصورًا في هذه الصفقات الفاسدة، بل يتعلق أيضًا بعدم استثمار الطاقة الشمسية بشكل فعّال، على الرغم من أن مصر كانت من أولى الدول التي استخدمت الطاقة الشمسية في توليد الطاقة.
ففي عام 1913، تم تشغيل أول طلمبة مياه تعمل بالطاقة الشمسية في المعادى، وهو مشروع مبتكر لم يتم الاستفادة منه بشكل كامل رغم مرور أكثر من 100 عام على استخدام هذه التكنولوجيا. وإذا كانت الحكومة جادة في تطوير قطاع الكهرباء، لكان من المفترض أن تستثمر في مشاريع ضخمة تعتمد على الطاقة الشمسية مثل مشروع مدينة الطاقة الجديدة والمتجددة في العوينات.
الطاقة المتجددة: مشروع العوينات كنموذج للنهوض بالقطاع
مشروع العوينات هو فرصة ذهبية لتطوير الطاقة المتجددة، إذ يمكن لهذا المشروع أن يوفر 750 ميجاوات من الطاقة الكهربائية في السنة الأولى، 2000 ميجاوات في السنة الثانية، ويصل إلى 5000 ميجاوات في السنة الثالثة.
لكن حتى الآن، هذا المشروع يواجه تعطيلًا متعمدًا من قبل وزارة الكهرباء، رغم دراسات الجدوى المتكاملة التي تؤكد أنه يمكن أن يوفر ما يقارب 40 مليار دولار من التكلفة الإجمالية للمشروع على مدى السنوات المقبلة.
يجب أن نعلم أن مشروع العوينات ليس مجرد فكرة غير قابلة للتحقيق، بل هو مشروع جاهز للتنفيذ ويمثل فرصة لتطوير صناعة الخلايا الشمسية باستخدام الرمال المصرية في المنطقة.
ومن خلال هذا المشروع، يمكن توفير أكثر من مليونين فرصة عمل للشباب، مع تحسين جودة الكهرباء وتخفيض تكاليف استهلاك الطاقة على المواطنين. هذا المشروع هو جزء من رؤية وطنية تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية لتحقيق النجاح.
ضرورة الإصلاح الجذري في قطاع الكهرباء والطاقة
إذا أرادت الحكومة المصرية أن تضمن النجاح لهذا المشروع، فلا بد من تشكيل مجلس أمناء لهذا المشروع، على أن يكون رئيسه مسؤولًا بدرجة وزير لضمان تنفيذه بسرعة وكفاءة.
فأين وزير الكهرباء ورئيس الوزراء من هذه المشاريع؟ أين دور الحكومة في دعم الطاقة المتجددة؟ إن استمرار الوضع كما هو عليه سيؤدي إلى فشل شامل في حل أزمة الكهرباء، ويزيد من أعباء المواطنين الذين يعانون في صمت.
وعلى الحكومة أن تتوقف عن تجاهل هذه الفرص الثمينة وتبدأ في إصلاح شامل لقطاع الكهرباء، الذي يحتاج إلى استثمارات ضخمة في مشاريع الطاقة المتجددة، بدلًا من الاستمرار في إهدار الأموال على محطات كهرباء متهالكة وأسلوب فاشل في إدارة الموارد.
إن الأوان قد حان لتطبيق حلول حقيقية وتنفيذ مشاريع يمكن أن تعود على الاقتصاد المصري بعائدات ضخمة وتحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري.
وإذا لم تتحرك الحكومة بسرعة لإصلاح هذا القطاع، فإننا مهددون بالانزلاق إلى ظلام كامل، ليس فقط بسبب انقطاع الكهرباء، ولكن أيضًا بسبب الفساد المستشري الذي يهدر مقدرات الشعب المصري.