شركة السد العالي للمشروعات الكهربائية والصناعية “هايديليكو” هي إحدى الشركات التابعة للشركة القابضة للتشييد والتعمير، التي تخضع لوزارة قطاع الأعمال العام.
تأسست الشركة في يوليو عام 1971، ومنذ ذلك الحين كانت تُعد واحدة من الشركات البارزة في مجال تنفيذ مشروعات الكهرباء الكبرى داخل مصر وفي بعض الدول العربية.
إلا أن ما كان في البداية قصة نجاح باهرة، أصبح اليوم واحدة من أكبر قصص الفشل والفساد التي تكشف عن تفشي المحسوبية وسوء الإدارة داخل المؤسسات الحكومية في مصر، بما فيها الحكومة المصرية ووزارة الكهرباء والشركة القابضة.
تأسيس الشركة ومسيرتها الأولى
بدأت شركة “هايديليكو” مسيرتها بمشاركة نخبة من المهندسين والفنيين الذين شاركوا في بناء السد العالي، وهو أحد أعظم المشروعات المصرية.
وقد كانت الشركة في بداياتها تملك أسطولاً ضخماً من المعدات الثقيلة التي كانت تُستخدم في بناء السد، مثل الأوناش، الجرارات، والمقطورات.
كما استندت إلى كفاءات هندسية وفنية عالية، نجحت في تنفيذ مشروعات هائلة في مصر وخارجها في دول مثل السعودية، ليبيا، الجزائر، وعمان.
كانت الشركة تُنفذ مشروعات محطات توليد الكهرباء (حرارية، غازية، مائية، ديزل)، محطات المحولات ذات الجهد العالي والفائق، بالإضافة إلى مشروعات خطوط الجهد الفائق والعالي من 33 ك.ف حتى 500 ك.ف، وأعمال النقل الثقيل والهياكل الحديدية.
ولكن رغم هذه الانطلاقة القوية، فإن الشركة بدأت تعاني من التراجع بشكل لافت في السنوات الأخيرة، بسبب سوء الإدارة وتقصير المسؤولين في تنفيذ المشروعات،
مما دفع الشركة القابضة للتشييد والتعمير إلى دراسة دمجها في شركة “اليجكت لأعمال الكهرباء” في محاولة لإنقاذها. ولكن التقارير الرقابية كشفت عن فضائح لا حصر لها في الشركة.
فضائح الفساد وإهدار المال العام
كشف تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي وصل إلى مكتب وزير قطاع الأعمال، عن فضائح كبرى داخل شركة “هايديليكو”، حيث تم إهدار نحو 525 مليون جنيه، فضلاً عن الفساد المستشري في إدارة الشركة.
التقرير الذي أشار إلى أن الحكومة ووزارة الكهرباء لم تتخذ أي إجراءات حقيقية ضد المسؤولين المتورطين في هذه الفضائح، يوضح العديد من المخالفات المالية والإدارية التي تثبت وجود فساد مستشري داخل الشركة.
أحد أبرز المخالفات التي كشفها التقرير كانت تمثلت في إخفاء القوائم المالية الخاصة بفروع الشركة في الدول العربية مثل الجزائر، اليمن، المغرب، ليبيا، والسعودية.
وتم رصد إخفاء أنشطة تجاوزت قيمتها 11 مليون جنيه، بل إن القوائم المالية الخاصة ببعض الفروع لم يتم تصديقها من القنصليات المصرية أو النقابات المهنية المعنية.
ومن ضمن المخالفات المالية التي ظهرت، كان الفارق في التدفقات النقدية حيث أظهر التقرير تباينًا بين الأرقام المعلنة في بداية ونهاية الفترة المالية، حيث ثبت أن هناك فارقًا وصل إلى 24 مليون جنيه في بداية الفترة المالية، و15 مليون جنيه في نهايتها، ولم يتم تقديم أي تفسير لهذه الفروق المالية الكبيرة.
الإخفاء المتعمد للخسائر
بالإضافة إلى ذلك، كشف التقرير عن أن شركة “هايديليكو” أخفت الخسائر التي تعرضت لها أصولها في فرعيها في ليبيا واليمن.
ففي ليبيا، بلغ حجم الخسائر 7 ملايين يورو، أي ما يعادل 54 مليون جنيه مصري، نتيجة لتوقف العمل في ليبيا بسبب الأوضاع الأمنية.
في اليمن، تم إخفاء حجم الخسائر، بل إن التقارير أظهرت أن الخسائر الإجمالية بسبب توقف المشروعات وصلت إلى 98 مليون جنيه، حيث بقي من قيمتها التعاقدية نحو 41 مليون جنيه.
إلى جانب ذلك، قام المسؤولون في الشركة بإخفاء نتائج الجرد للأصول الثابتة، حيث تم الكشف عن اختلافات بين السجلات والأصول الفعلية.
وبلغت الخسائر الإجمالية في مشروعات توقفت بدون تحقيق الإيرادات المطلوبة نحو 48 مليون جنيه. بل إن الشركة لم تقم بأية عمليات جرد أو حصر للأصول كما يجب.
وكان هناك تقاعس أيضًا في التأكد من كميات المواد المستلمة من المقاولين مقارنة بالكميات المذكورة في مستخلصات العملاء، مما جعل من المستحيل تحديد الكميات الفعلية.
مخالفات أخرى وإهدار للمال العام
وورد في التقرير أن هناك عمليات إنفاق غير مبررة على مشروعات تم الانتهاء منها بالفعل، حيث تم صرف حوالي 1.5 مليون جنيه على مشروعات تم تسليمها.
وأشار التقرير إلى أن الشركة لم تقم بتسوية أي من المشروعات الملغاة لصالح كهرباء أسيوط، التي بلغت قيمتها 7 ملايين جنيه.
كما ذكر التقرير أن هناك حسابات مستحقة منذ أكثر من 25 عامًا، تصل قيمتها إلى 72 مليون جنيه، وأنها لا تزال قائمة دون سداد.
أما في ما يتعلق ببيع الأراضي، فقد كشف التقرير عن فساد ضخم في بيع قطعة أرض بكفر الشيخ، حيث تم بيع الأرض بمبلغ 100 مليون جنيه، ولكن الشركة لم تتلق سوى 43 مليون جنيه فقط، منها 24 مليون جنيه تم استلامها عبر شيكات مرتدة.
والأسوأ من ذلك، أن الشركة لم تقم بفسخ العقد مع المشتري رغم تأخره في دفع باقي المبلغ. وقد قام المسؤولون بإصدار تراخيص للمشتري رغم مخالفته لبنود العقد، مما يثير العديد من التساؤلات حول تورط المسؤولين في هذه الفضيحة.
تقاعس الحكومة والشركة القابضة
على الرغم من كل هذه الفضائح التي تم الكشف عنها في التقارير الرقابية، فإن الحكومة المصرية ووزارة الكهرباء والشركة القابضة للتشييد والتعمير لم تتحرك لفتح تحقيقات حقيقية أو محاسبة المسؤولين عن هذه الأفعال.
بل إن المواقف التي اتخذتها الحكومة كانت في أغلب الأحيان متأخرة، أو كانت تتسم بالتسويف والتجاهل. وكالعادة، لم يحدث أي تحرك جاد من وزارة قطاع الأعمال، حيث ظل المسؤولون عن الفساد داخل الشركة بعيدين عن أي عقوبات، وهو ما يعكس بشكل جلي ضعف الرقابة وغياب المحاسبة.
في هذا السياق، ظهر التقاعس المستمر من قبل الشركة القابضة للتشييد والتعمير التي لم تأخذ أي خطوات جدية لإصلاح الوضع، بل استمر الفساد في التسلل إلى داخل الهيكل الإداري للشركة، مما أضر بالمال العام وأدى إلى خسائر جسيمة.
حالة من التواطؤ المستمر
يظل الفساد المالي والإداري داخل شركة “هايديليكو” واحدًا من أكبر الأمثلة على انهيار المؤسسات الحكومية في مصر. فالشركة، التي كانت في يوم من الأيام رمزًا للقوة الوطنية والكفاءة الهندسية، أصبحت اليوم مثالاً صارخًا على كيفية تبديد الموارد الوطنية في ظل غياب الرقابة والمحاسبة.
إن التقارير الرقابية، والتي كانت تحوي أرقامًا موثقة تقدر الخسائر بعشرات الملايين من الجنيهات، ما هي إلا دليل على حجم الفساد المستشري داخل هذه المؤسسة، والذي لا يزال مستمرًا حتى الآن.
إن المسؤولين في الحكومة ووزارة الكهرباء والشركة القابضة للتشييد والتعمير يتحملون المسؤولية الكاملة عن هذا الفساد الذي أضر بالمال العام، وما لم تتحرك الجهات الرقابية بشكل جاد لفتح تحقيقات شاملة، فإن هذه الفضائح ستظل مستمرة، وستظل سمعة الشركة القابضة والشركات التابعة لها تتدهور أكثر وأكثر، بينما تبقى الأموال العامة في مهب الريح.