في تحول مفاجئ وغير مبرر تقرر أن يتولى جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة مسؤولية استيراد السلع الاستراتيجية من خلال استبدال دور الهيئة العامة للسلع التموينية في خطوة تكشف عن تقاعس الحكومة المصرية في إدارة احتياجات البلاد الأساسية
كما تؤكد على حجم الفساد المتفشي داخل أروقة السلطة الحاكمة، حيث باتت كل القرارات تأتي بناء على مصالح شخصية أو أهداف غامضة تدفع بالاقتصاد الوطني إلى حافة الانهيار.
القرار الذي تم اتخاذه في الخامس من ديسمبر، عبر خطاب من وزارة التموين إلى وزيرة الزراعة الروسية “أوكسانا لوت”، قد ألقى بظلاله على طريقة تعامل الدولة المصرية مع الأزمات الاقتصادية واستيراد السلع الأساسية،
حيث أشار الخطاب إلى أن جهاز مستقبل مصر سيأخذ مكان الهيئة العامة للسلع التموينية التي كانت مسؤولة في السابق عن تنظيم وتدبير السلع الاستراتيجية في البلاد، وهو ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول طبيعة هذه التغييرات المفاجئة.
الجهاز الذي تأسس بموجب قرار جمهوري في عام 2022 ليكون الذراع التنموي للقوات المسلحة المصرية، قرر أن يعوض دور الهيئة في مجال الاستيراد عن طريق تبني نظام جديد يعتمد على اتفاقيات الشراء المباشر إلى جانب المناقصات. هذه الاستراتيجية، التي يُزعم أنها تهدف إلى تبسيط الإجراءات، أثارت قلق المتعاملين في الأسواق المحلية والعالمية من إمكانية استخدامها كأداة لتمرير صفقات مشبوهة أو منح امتيازات لأطراف محددة بشكل لا يخضع للرقابة أو الشفافية، مما يعكس الواقع المرير للتسيب الحكومي.
الخطاب الموجه إلى “أوكسانا لوت” أكد على أن جهاز مستقبل مصر سيكون الجهة الوحيدة المسؤولة عن كافة الاختصاصات التي كانت تمارسها الهيئة العامة للسلع التموينية في السابق، وهو ما يعكس استمرار الهجوم على المؤسسات الحكومية العاملة بجدية وكفاءة في حماية مصالح الشعب. كما أكدت وزارة التموين في الخطاب ذاته أن الجهاز يملك القدرة المالية على الوفاء بكافة التزامات المناقصات والشراء المباشر، وهو ما يثير تساؤلات حول مصادر هذه الأموال وهل هي نابعة من الميزانية العامة للدولة أم أنها أموال تتبع مصالح خاصة، مما يعزز فرضية الفساد الكبير داخل الأروقة الحكومية.
وبينما تكشف هذه القرارات عن هشاشة الإدارة الحكومية في التعامل مع الأزمات الاقتصادية، يأتي البيان الصادر عن مجلس الوزراء في الثاني من ديسمبر ليؤكد بشكل غير مباشر على تقاعس الحكومة في إدارة الملفات الاقتصادية الأساسية، حيث أعلن أن رئيس الحكومة مصطفى مدبولي قد عقد اجتماعًا لمتابعة موقف تدبير الأقماح، ولكن كان الغريب هو غياب الهيئة العامة للسلع التموينية عن الاجتماع الذي كان يجب أن تشارك فيه باعتبارها الجهة المسؤولة عن توفير السلع الأساسية.
اللافت للنظر في هذا الاجتماع هو ظهور العميد بهاء الغنام، المدير التنفيذي لجهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة، الذي أصبح أحد الأسماء البارزة في مشهد مشتريات القمح في مصر خلال الآونة الأخيرة، مما يعكس تحولًا غير مبرر في النظام الذي كان معمولًا به سابقًا. هذا التغيير الكبير في إدارة عمليات شراء السلع الإستراتيجية يشير إلى أن الحكومة المصرية تعمل على تعزيز دور الأجهزة التابعة للقوات المسلحة في شتى المجالات، وهو ما يطرح تساؤلات مشروعة عن الهدف من هذا التحول الذي يهدد استقرار أسواق السلع الغذائية في البلاد.
وفي خطوة جديدة تكشف عن تعقيدات الوضع الاقتصادي، أعلن جهاز مستقبل مصر عن محاولته الأولى لشراء القمح والزيوت النباتية عبر اتفاقيات الشراء المباشر في نهاية نوفمبر. لكن ما حدث هو أن غموض الإجراءات جعل المتعاملين في السوق في حالة من الارتباك والتردد، حيث أدى ذلك إلى تأجيل العديد من المعاملات والمطالبة بالمزيد من الشفافية في تنفيذ هذه الصفقات.
ما يثير القلق أكثر هو الدور المتنامي لهذا الجهاز في قطاعات الاقتصاد المصري في وقت تعيش فيه البلاد أزمة اقتصادية خانقة، حيث كان جهاز مستقبل مصر قد بدأ في استصلاح الأراضي الزراعية، لكنه بات الآن يطمع في السيطرة على مجالات أخرى مثل شراء السلع الأساسية، وهو ما يعكس تنامي نفوذ المؤسسة العسكرية على مفاصل الاقتصاد الوطني.
من خلال هذه القرارات المشبوهة، تضع الحكومة المصرية يدها على مقاليد الاقتصاد دون مراعاة للشفافية أو الرقابة، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة الفساد وانعدام المساءلة في إدارة موارد الدولة. في وقت تحتاج فيه البلاد إلى مزيد من الانفتاح والتطوير المؤسسي، نجد أن الحكومة المصرية تواصل فرض رقابة مشددة على الملفات الاقتصادية الحيوية، مما يعمق مشاعر القلق لدى المواطنين ويزيد من حجم الإحباط من أداء الحكومة.
إن هذا التحول الجذري في سياسة استيراد السلع الاستراتيجية عبر جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة يضاف إلى سلسلة من القرارات الغامضة التي تزيد من حالة عدم الثقة في الحكومة المصرية. هناك حاجة ماسة لإعادة النظر في هذه السياسات التي تُظهر الحكومة وكأنها تخطط لزيادة نفوذها على حساب الاقتصاد الوطني، مما يضع المزيد من الضغوط على الفئات الفقيرة والمتوسطة التي تعاني من غلاء الأسعار وشح السلع.