في عالم شديد التعقيد ومصالح شديدة التشابك باتت التحالفات تتغير كل يوم.. شاهدنا خلال الأيام الماضية تقارب مصري إيراني واضح، بداية من زيارة وزير الخارجية عباس عراقجي للقاهرة، ثم لقاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع نظيره الايراني مسعود بزشكيان على هامش قمة بريكس في قازان الروسية، وهو ما جعل تقارير دولية تتسأل حول مدى إمكانية عودة العلاقات الثنائية بين البلدين مرة أخرى؟!..
تساؤلات تشغل بال الكثير من اللاعبين إقليمياً ودولياً، حيث أن أي تقارب بين القاهرة وطهران يغير من حسابات منطقة الشرق الأوسط بالكامل.. تلك المنطقة التي تعوم فوق بحر من الديناميت القابل للانفجار دائماً.. الأمر لا يخلو من حسابات المكسب والخسارة، في ظل تطورات دولية جعلت العالم على أبواب الحرب العالمية الثالثة، ما لم ينتصر صوت العقل والحكمة، لذا ذهب خبراء للتأكيد على ما تشهده المنطقة من تداعيات مهددة للاستقرار والأمن تتطلب التعاون بين كافة القوى الإقليمية، والاستناد إلى آلية الحوار، وتسوية الخلافات، وتسكين العديد من الملفات الساخنة.
ويبقى السؤال: هل تقبل مصر سعي إيران للتحالف معها؟! ما هي فاتورة تقارب طهران مع القاهرة؟ وهل تستطيع مصر دفعها والخروج من ذلك التقارب رابحة؟! وهل تريد إيران التحالف مع مصر بمفردها أم التحالف سوف يمتد إلى شركاءها الخليجيين والعرب أيضاً؟!.. الأمر يحتاج حسابات دقيقة ودقيقة جداً في ظل الدور الإقليمي للقاهرة، والتوجه الأيديولوجي، ونمط السياسة الخارجية وأدواتها.. البعض يذهب إلى أن وجود الرئيس السيسي على رأس السلطة في مصر والذي تنوعت العلاقات الخارجية المصرية في عهده شرقاً ولم يكتف بالعلاقات التقليدية مع المحور الأمريكي- الأوروبي، التي استمرت طوال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، قد يكون دافعاً إلى عقد التحالف مع إيران، خاصة أن الرئيس السيسي لم يخف إعجابه بالسياسة الخارجية للرئيس أنور السادات ووصفه بأنه «سابقاً عصره وأنه أتخذ قرارات لم تفهم إلا بعد سنوات».. ولمن لا يعرف كان الرئيس السادات بعد انتصار أكتوبر 1973، يريد عقد تحالف مع شاه إيران محمد رضا بهلوي في مواجهة المخططات الصهيوامريكية، وتكوين تحالف إسلامي صلب، مستفيداً من العلاقات الشخصية التي تربط بين الرجلين، وهو ما دفع البعض للتأكيد أن أحد أسباب دعم الغرب الثورة الإسلامية في إيران هو إفساد التحالف بين القاهرة وطهران وتأديب شهاه إيران على تمرده.. فهل يقوم الرئيس السيسي بزيارة طهران ليُحدث نفس الزلازل السياسي الذي أحدثته زيارة الرئيس أنور السادات لمدينة القدس في 19 نوفمبر 1977؟!…
أيضاً، وجود «مسعود بزشكيان» رئيساً إيرانياً من خارج التيار المحافظ، والذي يعتبر ثالث إصلاحي يرأس إيران، ويصفه أنصاره بـ«الرئيس المعتدل» يعزز من خطوة عودة العلاقات مع مصر على مستويات التطبيع الكامل وتبادل السفراء، بعدما كشف عن رغبته في الانفتاح على جميع اللاعبين الدوليين، خاصة المحيط العربي، مستفيداً من تصريحات أعلى مستوى «سياسي/ ديني» في طهران؛ المرشد الأعلى علي خامنئي في مايو 2023 بأن بلاده «ليس لديها أي مشكلة في عودة العلاقات بشكل كامل مع القاهرة في إطار توسع سياسات حُسن الجوار»، ويرى مراقبون أن طهران انفتحت بقوة لعودة العلاقات مع مصر بعد رفض القاهرة في 2019 الانضمام لتحالف أمني تدعمه أمريكا الهدف من إنشائه مواجهة إيران، والمعروف إعلاميا باسم «الناتو العربي».. فهل نرى الرئيس الإيراني في القاهرة قريباً؟!.
وتؤكد تقارير سياسية أنه خلال السنوات الأخيرة فتحت طهران مسارا للتقارب مع القاهرة عبر سلطنة عُمان والعراق، وكلاهما تبنى محاولات دبلوماسية متعددة لتقريب وجهات نظر الطرفين تجاه القضايا الخلافية، إلا أن مصر قابلت تلك المحاولات بهدوء شديد من أجل رسم الخطوط الرئيسية لطبيعة العلاقات التي ترغب مصر في أن تلتزم بها إيران، وتوضيح التحفظات المصرية العديدة تجاه تفاعلات إيران في المنطقة، لاسيما تدخلاتها في شئون عدد من الدول العربية ذات الأهمية للأمن الإقليمي المصري..
ورغم مخاوف البعض من أوجه الشبه بين الثورة الإسلامية في إيران بقيادة المرشد الأعلى، والشكل التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين التي يقودها مرشد عام أيضاً، حيث يستخدم كل منهم مبدأ التقية والبراجماتية السياسية، ويسيطر التنظيم الديني على القرارات المختلفة، إلا أن النظام الإيراني أكثر خبرة سياسية وقدرة على عقد التحالفات التي يربح فيها جميع الأطراف، ومن مصلحته التعاون مع مصر على عدة أصعدة.. خاصة أنك هنا تتعاون مع نظام سياسي يحكم إيران منذ عقود، وليس مجرد جماعة دينية.
عزيزي القارئ.. تبقى حسابات التوقيت مهمة ومهمة جداً لأي تقارب مع إيران.. فالعلاقات المصرية – الإيرانية التي بدأت بمصاهرة ثم قطيعة ثم فتور.. لا تعتمد على حسابات المصالح المشتركة بين البلدين فقط، لكنها تتقاطع مع موقع وتحالفات كل بلد، ومع المشهد الإقليمي والدولي.. التحالف الصهيوامريكي يخشي أي تقارب مصري إيراني يفسد مخطط صانع القرار العالمي الذي يخطط على إشعال حرب شاملة في المنطقة ولا يريد منح دول المنطقة أية فرصة لإخماد النيران، وأي لاعب يفسد ذلك المخطط يصبح في دائرة العداء .. باختصار نحن أمام «دعاة السلام والتنمية في مواجهة دعاة الحرب والدمار» كما قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال القمة العربية الإسلامية في السعودية قبل أيام.
وفي ظل تداعيات عمق مصر الجيوسياسي والأيديولوجي، والذي يتيح هامش واسع من المناورة الإستراتيجية، بدأ الموساد والأجهزة الأمنية والإعلام الإسرائيلي يرصدون -بمزيد من الخوف والقلق- تأثير العلاقات بين مصر وإيران على المشهد العام في الشرق الأوسط، كما أن الأشقاء في الخليج يراقبون عن قرب تأثير العلاقات المصرية الإيرانية .. خاصة أن المنطقة يوجد بها ثلاثة مشروعات متقاطعة المشروع الإسرائيلي أو «خطة الجنرالات» القائمة على التمدد الخشن والصدام مع كامل المحيط الإقليمي من أجل إقامة دولة إسرائيل الكبرى من نهر النيل حتى نهر الفرات، والمشروع الفارسي القائم على استخدام أذرع إيران الخارجية في مواجهة أي خطر حتى تتمكن طهران من صناعة القنبلة النووية وإعادة حلم الإمبراطورية الفارسية، والمشروع المصري المتزن القائم على تجنب الصراعات ومنع الصدام والحفاظ على المصالح الوطنية والعربية، وامتلاك قوة الردع تحسباً لأي مواجهة، وكل طرف سواء في تل أبيب أو طهران يدرك أن اجتذاب القاهرة إلى صفه يعني تحقيق انتصار كبير في بنك أهدافه.. وهو ما يجعل القاهرة محط أنظار الجميع.. إقليماً ودولياً.
إعادة إحياء ملف «العلاقات المصرية الإيرانية» يسبب قلق داخل تل أبيب، وتؤكد وسائل إعلام إسرائيلية على عودة الدفئ في العلاقات بين القاهرة وطهران، وهي الخطوة التي لم يكن يتمناها الكيان، وفي تقرير لمؤسسة الأمن القومي الإسرائيلي تسأل داوفير وينتر: هل تغيير قيادة المخابرات المصرية مجرد تغيير اداري طبيعي أم أن الأمر خطير، كما أن وجود وزير الخارجية الإيراني في القاهرة ليس مجرد حوار بل تقارب شديد الخطورة – بحسب تعبيره -، وقد اتفق الموساد مع خطورة الخطوة المصرية وأكد خبراء عسكريين واستخباراتيين صهاينة أن هناك تحول خطير في السياسة المصرية تجاه المحور الصيني الروسي الإيراني، ويري الإعلام الصهيوني أن مصر بالتقارب مع إيران تزيد من تأثيرها علي كل التنظيمات التي تحارب اسرائيل مثل حزب الله وحماس والحوثي.. وكشفت تقارير أن ما كان بين مصر وإيران هو الحرج من المملكة السعودية والخليج، لكن بعد تقارب ولي العهد السعودي مع إيران برعاية صينية أصبحت أبواب التقارب مفتوحة بين القاهرة وطهران دون تأثير سلبي على علاقة مصر مع العواصم الخليجية، خاصة أن عمان وقطر والامارات والكويت لديها علاقات عميقة مع إيران.
الواقع .. مصر تملك من الخبرات السياسية والمعلومات التي تجعلها تدرك أنه رغم الحديث العدائي المعلن بين طهران وتل أبيب، فإن أغلب التقارير المخابراتية تؤكد وجود علاقات سرية قوية بين البلدين، وأن الصراع الصهيوامريكي- الإيراني، هو خلاف على نصيب كل منهم في «كعكة الشرق الأوسط» وما حدث في العراق بعد صدام حسين خير دليل.. 200 ألف يهودي في إسرائيل من جذور إيرانية والكثير منهم رجال أعمال ناجحين وواسعي النفوذ والعديد من اعضاء اللوبي اليهودي في أمريكا إيرانيين ويلعبون دور محوري في الإتصالات بين طهران وتل أبيب، في ظل وجود 100 الف يهودي حتى الآن في إيران، ووفق الحديث الشريف «يتبع الدجال 70 الف من يهود اصبهان»، فلا تصدق كل ما تراه ولا نصف ما تسمعه.. الكواليس تحمل الكثير من التفاصيل السرية والسرية جداً، ويمكن للقاهرة وفق مراقبون أن تحمي إيران من اللعب بالنيران التي ستحرقها في النهاية خاصة أن الهدف الرئيسي وفقاً للعقيدة اليهودية هو التهام طهران، والبعد العقائدي هو ما يحكم العالم مهما كانت المصالح السرية، ومخطط إستخدام إيران كرأس حربة لالتهام العرب لن يكون إلا بداية نهاية المشروع الإيراني.. وهو ما بدأ يدركه صانع القرار في طهران لذا أصبح مسئولي إيران أكثر انفتاحاً على التعاون مع مصر وغيرها من العواصم العربية، وتقديم فروض الولاء ومد جسور الثقة.. من لا ينقذ نفسه لن يجد أحد ينقذه.
يرى البعض أن الاقتصاد يمكن أن يكون القاطرة التي تقود عودة العلاقات بين مصر وإيران، عبر تعزيز التبادل التجاري بين البلدين، وإذا كانت حرب الطاقة سبب رئيسي فيما تشهده منطقة الشرق الأوسط على مدار عقود طويلة من صراعات وحروب سواء بالوكالة أو مباشرة، تتجه القاهرة لتنويع مصادر الطاقة حتى لا تكون تحت ضغط الأطراف الدولية المتصارعة و المتناحرة، وتستعد للحرب الكبرى، فيما تحتل إيران المرتبة الثانية على مستوى العالم من حيث احتياطيات الغاز الطبيعي والرابعة من حيث احتياطيات النفط الخام المؤكدة، لذا يمكن لمصر شراء النفط الإيراني، وهو ما يحرر القاهرة من ضغوط بعض الدول النفطية عليها، كما يمكن أن تكون إيران – التي تملك 15% من احتياطي الغاز في العالم – ورقة ضغط تستخدمها القاهرة في مواجهة إسرائيل التي حاولت العبث بملف الغاز وعطلت تصديره إلى مصر بحجة إندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، بل ذهبت تقارير سياسية أن القاهرة قد تدفع في إتجاه جعل إيران عضو مراقب في منتدى غاز شرق المتوسط مثل أمريكا والاتحاد الأوروبي والإمارات، المنتدى الذي يضم في عضويته مصر وسوريا وفلسطين والأردن واليونان وقبرص وفرنسا وإيطاليا وإسرائيل، ومقره الرئيسي القاهرة وتم إنشاءه لتكون مصر مركز تجارة الطاقة في المنطقة.. وإذا كانت مصر يمكن أن تستخدم طهران عصا في وجه العصيان الصهيوني، فإن إيران بتلك الخطوة إذا تمت سوف تكسر الحصار المفروض على إنتاجها من الطاقة.. وتجلس وجها لوجه مع خصومها .. وهو مكسب لو تعلمون عظيم.
كما أن إيران تحتاج إلى القاهرة عسكرياً، حيث تحتل مصر المرتبة 12 في قائمة أقوى الجيوش في العالم، والمرتبة 5 في قائمة الدول المصنعة للزخائر حول العالم، علاوة على امتلاك صناعات عسكرية متطورة ظهرت مؤخراً خلال مناسبات مختلفة، وهو ما يعد أحد أهم مصادر قوة القاهرة، ويمكن أن يكون مصدراً مهماً للدخل القومي، فقد رفضت مصر ضغوط عدة من أجل وقف الصناعات العسكرية أو التقليل منها، وهو ما يمكن أن تستفيد منه إيران في كسر حظر التسليح المفروض عليها والذي جعلها تعتمد على الصين في 86% من واردات الأسلحة الخاصة بها، كما أن هناك اهتماماً إيرانياً بتطورات الحضور المصري العسكري من خلال قيادة قوة المهام المشتركة 153 والتي تتمثل مهامها في مكافحة أعمال التهريب والتصدي للأنشطة غير المشروعة خاصة الأنشطة الإرهابية في مناطق «البحر الأحمر – باب المندب – خليج عدن»، وهي مناطق ذات بُعد استراتيجي بالنسبة لإيران، كما تلعب الدبلوماسية المصرية دوراً مهماً في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وخاصة في الدول ذات البُعد الجيوستراتيجي بالنسبة لطهران، في العراق ولبنان واليمن وغيرها.
عزيزي القارئ.. إيران تتحرك في أفريقيا من أجل تأمين تواجد دائم في البحرين الأحمر والمتوسط من أجل المساهمة في السيطرة على الممرات المائية، وهو ما يجعل لها نفوذ واسع على الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا إذا امتلكت علاقات قوية مع مصر، ونجحت خلال السنوات الأخيرة في بناء علاقات مع عدد من الدول الأفريقية منها الجزائر وجنوب أفريقيا والسودان ونيجيريا ومالي وبوركينافاسو تراوحت ما بين التعاون الاقتصادي والعسكري، كما تسعى إلى رفع حجم تجارتها مع افريقيا إلى 12 مليار دولار بدلاً من 1.6 مليار دولار في 2023، لتحدي جهود عزلها إقتصادياً وسياسياً، وإذا كان للأزهر الشريف تواجد قوي في أفريقيا على مدار عقود طويلة إلى جانب الوهابية السعودية فإن إيران تسعى إلى التواجد الديني في القارة السمراء من خلال نشر التشيع الصفوي عن طريق مؤسسات رسمية مدنية، علاوة على الاستفادة من أنشطة الجاليات الشيعية اللبنانية والعراقية والهندية والباكستانية.. وبالطبع لا تريد الصدام مع الأزهر الشريف أكبر مؤسسة دينية سنية في العالم.. لذا التعاون مع مصر يضمن عدم النزاع حول مناطق النفوذ في أفريقيا.
نعم عزيزي القارئ.. النظام الإيراني بحاجة إلى تطبيع علاقاته مع مصر وغيرها من الدول الإسلامية من أجل الخروج من حالة الحصار الدولي والعزلة السياسية الناجمة عن سلوك قادته، واستخدام العنف لمواجهة الاحتجاجات الداخلية، والملف النووي، والدخول على خط الصراع في سوريا واليمن وفلسطين وأوكرانيا ولبنان، وأن القاهرة لن تتحالف مع طهران منفرده بل لا بد أن تضمن أمن دول الخليج العربي التي تعتبره خطاً أحمر، وتضمن تعهد إيران بعدم زعزعة استقرار المنطقة، وربما كانت عودة العلاقات بين طهران والرياض في مارس 2023 أحد الحوافز المشجعة على تقارب مصر وإيران والسعي الجاد لإنهاء عقود من التوتر السياسي بين البلدين، وهو الاتفاق الذي سوف يفسد المخطط الصهيوامريكي لإشعال حرب «سنية/شيعية» والذي يعتمد على اذكاء الخلافات بين الدول العربية وإيران.. حيث أن أمريكا تستخدم إيران كفزاعة لدول الخليج والمنطقة، وذريعة من أجل نهب ثروات وأموال العرب.. الأمر الذي فطنت له بعض دول الخليج قبل أعوام وبدأت في إقامة علاقات سرية وعلنية مع إيران.. لذا رفضت الكثير منها مؤخراً استخدام اجواءها في ضرب إيران.. وهو ما صعب استهدافها من جانب إسرائيل وأمريكا.
وشكلت التطورات الراهنة في الشرق الأوسط، الناتجة عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، «فرصة إقليمية» لمزيد من التقارب بين مصر وإيران، أو على أقل تقدير تمثل فرصة للعمل المشترك – انطلاقا من دعم كلتا الدولتين للقضية الفلسطينية – نحو تهدئة مسار تلك الحرب ومحاولة البحث عن حلول لها، لاسيما الدور الذى تقدمه القاهرة كوسيط في مفاوضات وقف إطلاق النار، وظهر ذلك بوضوح في المحادثات الثنائية بين البلدين.
واتساقاً مع هذه الرؤية، فقد رفضت القاهرة، انطلاقاً من دورها الإقليمي، أن تكون جزءا من تحالف دولي بحرى تكون مهمته مواجهة النشاط الحوثي أو حتى تقويضه، رغم تضررها المباشر من تراجع حركة الملاحة في البحر الأحمر وتأثيره على حركة التجارة عبر قناة السويس، لكن يبقى موضوع الحوثيين له أهمية كبيرة لدى مصر إلى جانب القضايا المتعلقة بحرب غزة، فمنذ أن بدأ الحوثيون المدعومون من النظام الإيراني حملات ضد الملاحة البحرية المتوجهة إلى إسرائيل فإن هذه الإجراءات لم تلحق أضراراً باقتصاد الكيان أو تشكل تهديداً ضده فقط، لكنها سببت أضراراً لمصر، فقد غيرت نحو 60% من السفن التجارية رحلاتها من البحر الأحمر وقناة السويس إلى رأس الرجاء الصالح، وهو ما أدى إلى انخفاض موارد القناة بصورة ملحوظة، وهو الأمر الذي يمكن لإيران أن تلعب دوراً محورياً في إنهاءه، علاوة على أن التعاون البحري بين البلدين يضمن السيطرة الكاملة على منطقة البحر الأحمر والممرات المائية في الشرق الأوسط.
كما تعد سوريا أحد ملفات التقارب بين البلدين، وفي ظل احتجاجات الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد قطعت اغلب الدول العربية علاقاتها مع الحكومة السورية وأغلقت سفاراتها في دمشق لكن مصر لم تغلق سفارتها، وكانت مصر من القلائل التي دعمت نظام الأسد باعتبار سوريا جزء من الأمن القومي المصري، وإيران تعد أحد الحلفاء الاستراتيجيين للنظام السوري.. ومع تصاعد التوتر مجددا في سوريا يمكن أن تلعب البلدين دوراً مشتركاً في عودة التهدئة، كما شهد السودان دعم كل من القاهرة وطهران للجيش الوطني السوداني في مواجهة قوات الدعم السريع وهو يمثل ركيزه أخرى التعاون المشترك، علاوة على أن عودة العلاقات مع مصر قد تسهم في رفع ضغوط كثيرة على حلفاء إيران في منطقة الهلال الخصيب، كذلك فإن التسارع التركي في إنجاز ملف تطوير علاقاتها مع العديد من دول المنطقة ومنها السعودية والإمارات وإسرائيل ومصر، وحتى أرمينيا «حليفة إيران ضد أذربيجان»، يزيد من الرغبة الإيرانية بألا تكون وحيدة ومنبوذة في المنطقة.
كما تمتع أرض الكنانة بثراء روحاني وديني وتاريخي يجذب إليها كل الشعوب والدول القديمة.. ويدرك الجميع، رغم تجميد العلاقات بين البلدين الكبيرين لعقود، أن إيران تحترم مصر وتعلم أن مصر هي أقدم دولة صوفية في التاريخ، ولا أحد أحب «آل البيت» وتبارك بزيارتهم مثل المصريين، وأعتقد أن التيار الكبير الذي يحب «آل البيت» بين الشعب المصري هو من يقلق التحليل الاستخباراتي الإسرائيلي لأنه يمثل الحاضنة الشعبية لأي تقارب مصري – إيراني، لذا يمكن أن تكون السياحة الدينية لمزارات آل البيت وقبر شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي في مسجد الرفاعي بالقاهرة أحد بوابات تعزيز العلاقات بين البلدين.
وتبقى القاهرة محور مستقل يعقد تحالفاته وفقاً لمحددات الأمن القومي، وأن عودة العلاقات بين البلدين يحتاج وجود إرادة سياسية، والاستفادة مما يمكن أن تتيحه هذه العلاقة من مكاسب للطرفين، بل وللإقليم كله، نظراً لما يتمتع به البلدان من ثقل جغرافي وديموغرافي واقتصادي، يمكن أن يتكاملا سياسياً واقتصادياً في مواجهة الضغوط الغربية علي دول الإقليم، لتحقيق مصالحهما المشتركة، بعيداً مصالح التحالف الصهيوامريكي الغربي الذي يريد فرض شرق أوسط جديد، من أجل استمرار نهب ثروات شعوب المنطقة وتمزيق دولها إلى عدة دويلات صغيرة، حتى لو أدى ذلك إلى إشعال حرب شاملة أو حرب عالمية ثالثة.. حيث استطاعت الدولة المصرية وبعد استقرار الأوضاع الداخلية منذ 2014، تطوير سياستها الخارجية انطلاقاً من عدة محددات جوهرها التزامها بنهج متوازن بين مصالحها الوطنية، والتزاماتها وموقفها تجاه القضايا الإقليمية والعالمية، فكانت سياستها الخارجية تقوم على احترام السيادة الوطنية لكافة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فكانت تلك عوامل ثقة لجميع الدول للتعامل مع الدولة المصرية.
أخيراً.. القاهرة وطهران تدركان أن ما تشهده منطقة الشرق الأوسط والحرب الروسية-الأوكرانية، سوف يؤدي في النهاية إلى خلق نظام عالمي جديد، لا مكان فيه إلا للتحالفات القوية والمتعددة الأطراف، ومن يقف وحيداً سوف يلتهمه الآخرون بكل سهولة، لذا يرى مراقبون أن مصر وإيران يمكن أن يتخذا خطوة خارج كل التوقعات، ويؤسسا تحالفاً يضم العراق وعمان وسوريا واليمن ولبنان والأردن والسودان وليبيا وفي وقت لاحق تنضم لهم السعودية والإمارات وتركيا، يكون منفتح على روسيا والصين، لفرض واقع جديد في مواجهة التحالف الصهيوامريكي وصانع القرار العالمي .. تحالف لا يكون الهدف منه الصدام بقدر خلق توازن دولي.. ومن هذا المنطلق ذهب البعض للتساؤل حول مدى إمكانية أن نشاهد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في طهران، وأن يأتي الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى القاهرة؟! فقد أصبحت العلاقات بين البلدين أكثر انفتاحاً في ظل إقليم ومجتمع دولي ينشغل جميع أطرافه بمصالحهم الخاصة والخاصة جداً.. دعونا نترقب ونرى.