تلقيت بقليل من الرضا أمس قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن توقيف مجرمي الحرب من أشباه البشر بنيامين نتنياهو ويواف جالات وذلك لتوفر قناعة لدى المحكمة بقيامهم بجرائم ضد الإنسانية واستخدام التجويع والحصار وحرمان المدنيين في غزة من كافة مقومات الحياة كسلاح في مواجهة شعب يقتل أمام العالم في إبادة جماعية تنقل بالبث المباشر على مدار أكثر من 14 شهرا!
هذا الخبر المنتظر في نفوس الحالمين بعدالة مؤسسات دولية إذا أحسنت الظن فيها رأيتها ضعيفة وهشة تسيطر عليها قوى لا تهوى إلا الشر وترى فيها مجرد اداة من أدوات بطشها تتزين في شكلها بالقانون الدولي وجوهرها الوقاحة والجنون. والغير منتظر عند آخرين ترسخت لديهم قناعة عدم جدوى السعي أمام جهات لم يرى منها طيلة حياته موقف أو قرار أنصف ضحية أو واجه وحشية بل كانت بتفاصيل إجراءاتها تمثيلية.
فور سماعي قرار المحكمة وقبل أن تختلط مشاعري بين هذين الفريقين وجدتني أردد (نص العما ولا العما كله) وهو مثل شعبي مصري وجد فيه عقلي دون تفكير أو ترتيب وجاهة لوصف قرار التوقيف وما أكثر أمثال وحكم المصريين التي خرجت من رحم موقف لتعبر عنه في لحظة. إنها تضاهي في جمال الكلمات رغم قلتها وعمق المعاني على بساطتها وبعد المقاصد وجوهرها مجلدات عكف عليها جهابذة العلوم وأباطرة الفنون و أفنوا من أجلها أعمار.
وبالنظر إلى مضمون تلك المذكرة ومآلاتها نستطيع أن نقول في عدة نقاط وبإيجاز ما يلي:
من حيث الوقت جاء متأخرا جدا وبعد سلسلة من المراوغات والتباطؤ الغير مبرر في الوقت التي لم تتوقف الة القتل الصهيونية عن قتل الإنسان وتدمير العمران لعله يشبع تلك الحيوان الجبان الذي قطع أمام الشاشات في 8 أكتوبر 2023 وعدا بذبح سكان غزة وتحويلها إلى جزر خربة وعاونه في ذلك المطلوب اعتقاله الثاني وزير دفاع الحيوانات البشرية تلك الفئة التي لم يرى العالم في تاريخه مثلها في التوحش وانعدام الإنسانية وعشق الدماء.
من حيث المضمون لم يكن كما يجب أن يكون في وصف جرائمهم المكتملة والواضحة أمام أبسط البشر دون حاجة إلى علم وثقافة ودراية بعلوم القانون، جرائم يسهل على الفطرة السليمة تعريفها وفي مقدمتها الإبادة الجماعية التي لم تذكر في قرار اعتقالهم لعدم اقتناع المحكمة بوجود جرائم إبادة جماعية! توصلت المحكمة المبجلة إلى أن ما اعترفت به من جرائم ضد الإنسانية لم تمارس بشكل ممنهج وأرادت بغير حق ولا وجاهة وضعها في إطار الجرائم الفردية! وفي هذا تدليس فج وانحياز مقيت ولكني لم اتفاجأ ليقيني بدور مثل هذه المؤسسات الحقيقي لا الوجه المزيف للترويجي عند الحديث ضحايا أمة أعتبرت منذ زمن في عداد الموتى ولا بواكي لها ولا قادة يحمونها.
لم يتوقف الأمر عند تبييض همج العصر من جرائم ثابتة ولا شك في منهجيتها ودوافع ارتكابها الدينية، بل أصدرت أمر اعتقال لقائد كتائب عز الدين القسام محمد الضيف صاحب الأرض المناضل من أجل تحرير وطنه في مسعى غير محمود من المحكمة لوضعه في نفس كفة القتلة مجرمي الحرب متجاوزة بذلك قواعد القانون الدولي الإنساني والتشريعات الدولية التي تُقر بحق الشعوب في التحرر ومقاومة المحتل، خاصة عندما يكون المحتل بهذه القسوة واللا إنسانية الموحشة.
إننا أمام حلقة جديدة من مسلسل شراء الذمم وتضليل الأمم وتبييض صفحة سوداء لأحقر مجموعة بشرية دموية عرفتها الإنسانية على مر العصور والأزمنة، فصياغة القرار لا يمكن أن أراه ت إلا امتداد لأول واقعة شراء للعدالة في التاريخ المعاصر لإنقاذ نفس الفئة من إدانة عقيدة الصهيونية الدينية الإجرامية التي تدفعهم نحو الجنون في القتل.
وهنا أخذتني آلة الأدب العربي إلى حارة اليهود في دمشق متذكرا واقعة قتل رجل الدين المسيحي البدري توما على يد تاجر يهودي أراد أن يعد فطائر صهيون التي تحتاج في طهيها دما مسيحيا مسفوكا بذبح معلقا كالذبيحة. واجتمع كبار اليهود من معتنقي الصهيونية الدينية حينها من كل حدب وصوب واتجهوا إلى محمد علي باشا حاكم مصر واشتروا بأموالهم ذمته لا بغرض العفو عن القاتل ولكن لحرق أوراق القضية التي احتوت على ما يثبت أن الجريمة تمت بدوافع دينية ووفق أصفار يهودية لا تحض على الذبح فقط بل وبعد السلخ طهي شطائرهم الشيطانية بدماء بريئة.
أما عن جدوى ومآلات هذه المذكرة فإننا إذا كنا نعبر عن ترحيبنا البسيط بتوقيف نتنياهو وجالانت لا يعني اننا نرى في ذلك انتصار سيتحقق معه معاقبتهم. علينا أن نعي أن توقيف هؤلاء القتلة ليس إلزاميا على مختلف دول العالم ولن تعاقب دولة على عدم تسليمهم، كما أنه بإمكانهم من خلال اجراءات امام المحكمة إلغاء القرار وبالتالي يتحولوا إلى أبطال واجهوا اتهامات باطلة بشجاعة الفرسان حتى حصل على براءته!
هذا الغرب صاحب الإنسانية الانتقائية وعلى ما بيننا وبينهم من خلافات وخصومة لا شرف لهم فيها إلا أنني قد أتفق معهم في اعتبار امتنا من الأموات وبالتالي لا يمكن للميت أن يغير في الواقع المادي الملموس فقط تتحرك مشاعره فرحا إذا انصفه قاتله بكلمة للضحك على الدقون وعليه وجدت في مثل (نص العما ولا العما كله) لذا علينا ألا نترك العشم يأخذنا بغشم إلى وهم انتصار صنم لأمة يراها قطيعا من الرمم!
وحتى لا تشعر نفسي بتأنيب ضمير أو يراني أحد أبخس عطاء أهل الخير أو أُتهم بأنني أمام الجهود المضنية التي بذلت ضرير، فإن هذه المذكرة على قلة أثرها إلا أنها تاريخية وماكانت لتصدر إلا بجهود عابرة لكل الحدود من دول ومنظمات حقوقية وإعلامية وأفراد سخروا جهدهم ولازالوا من أجل هذه القضية. الشكر لكم وكل الشكر التقدير يا أصحاب الهمم والضمير.
وأخيرا أتمنى من الدول التي أعلنت التزامها بتنفيذ قرار الاعتقال في حال وصول المطلوبين بلادهم وأن يصدقوا ولو لمرة في حياة مرة لم تكن أياديهم بعيدة عن تمريرها على شعوب الأرض.
فياليت قسوة الكلمات، تعيد لنا الأموات، أو تُخمد تلك الآهات، لسخرت لها عمري وصببت عليهم من جحيم الأحرف نارا كلما أوقدوها اشتد عليهم سعيرا حتى يتخلص العالم من آخر مهووس بسفك دماء البشر، صاحب القلب الحجر.