في نهاية شهر سبتمبر من عام 2019، انطلقت أولى منافسات كرة القدم النسائية في السودان تحت مسمى دوري كرة القدم السوداني للسيدات، وهي خطوة تاريخية تأتي بعد سنوات من المنع والتضييق على ممارسة النساء للرياضة. هذه الانطلاقة لم تكن سهلة بل كانت نتاجاً لمرحلة طويلة من المعاناة والصراع ضد ثقافة ترفض مشاركة النساء في هذا المجال.
لم يكن الطريق ممهداً أمام هذا النوع من الرياضة، فقد كان المجتمع السوداني في عهد الرئيسين جعفر نميري وعمر البشير يرفض فكرة وجود فرق نسائية، حيث كانت فتاوى تحظر تشكيل مثل هذه الفرق بدعوى أنها تتعارض مع قيم وأعراف المجتمع السوداني.
ففي حقبة نميري، وبالتحديد في عام 1983، عندما أعلن عن تطبيق الشريعة الإسلامية، تم تحريم كرة القدم النسائية بصورة رسمية، واستمر الوضع على ذات المنوال في عهد عمر البشير الذي حكم السودان لثلاثة عقود. لم تكن تلك الحقبة مجرد فترة من السكون أو الرتابة بل كانت فترة من التحامل المزدوج على النساء والرياضة.
فالتهميش الذي واجهته النساء في كافة المجالات انعكس بشكل صارخ على غيابهن عن الملعب، بل كان يترتب على ذلك حملة من التنمر الاجتماعي والتنمر الإعلامي الموجه ضد أي امرأة تحاول أن تخرج عن هذا الإطار الضيق.
لم يكن واقع كرة القدم النسائية في السودان مجرد تحديات رياضية بل كان معركة ثقافية واجتماعية مع مجتمع محافظ كان يرى في كرة القدم من اختصاص الرجال فقط، ولعل هذا هو ما جعل البدايات صعبة للغاية. ظهرت العديد من المحاولات المبكرة لفتيات سودانيات للعب كرة القدم، لكنهن قوبلن بعنف لفظي وتشكيك في قدراتهن، بل كان هناك من يرى أن كرة القدم تناقض الهوية الأنثوية.
في هذا السياق، تروي اللاعبة زهرة محمد أزرق، الشهيرة بـ “وارغو”، تجربتها الشخصية مع التنمر والرفض الاجتماعي، خاصة في ظل الانتقادات التي تعرضت لها عقب مشاركتها في الدوري النسائي السوداني الأول. في إحدى المرات، وبالتحديد في الـ 30 من سبتمبر 2019، تَعرضت “وارغو” لسيل من التعليقات السلبية على حسابها في الفيسبوك، حيث تلقّت تعليقات مهينة مثل “مكانك المطبخ” أو “ابحثي عن مهنة أخرى”. كانت هذه التعليقات شديدة القسوة لدرجة أنها كادت أن تؤثر على مسيرتها، بل وتدفعها للتوقف عن لعب كرة القدم، إلا أن حبها للعبة وإصرارها على إثبات قدرتها دفعها للاستمرار. تتذكر “وارغو” بأنها كانت تشعر بالحزن العميق في البداية، لكنها اليوم تعد ذلك جزءاً من رحلتها نحو النجاح.
تعتبر “وارغو” أن التنمر الذي تتعرض له النساء في الرياضة ليس مقتصراً على التعليقات المسيئة من الجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، بل يتعداه إلى تنمر حتى من المدربين والمحيطين. هذا التنمر يمتد ليشمل التشكيك في قدرات اللاعبات، بل وفي أنوثتهن، وهو ما يخلق بيئة صعبة للغاية للنساء الراغبات في ممارسة الرياضة.
على الرغم من هذه الصعوبات، فإن هناك من أصرّ على مواجهة هذه التحديات. “جوجو” وهي إحدى اللاعبات البارزات في الدوري النسائي السوداني، تحدثت عن المعاناة التي رافقت مسيرتها الكروية، خاصة في ظل التعليقات السلبية التي كانت تصلها من الجمهور ووسائل التواصل الاجتماعي. تقول “جوجو” إن هذا التنمر أثر على العديد من اللاعبات لدرجة أن بعضهن أجبرن على ترك اللعبة. لم تقتصر الانتقادات على منصات التواصل فقط، بل امتدت لتشمل الأهل الذين كانوا يعارضون فكرة لعب الفتيات لكرة القدم، بل ويشجعونهن على الانخراط في أدوار اجتماعية تقليدية.
نائبة رئيس قطاع المرأة بنادي الهلال السوداني مشاعر عثمان، أكدت أن غالبية الأسر السودانية ما تزال ترفض فكرة أن تصبح ابنتهم لاعبة كرة قدم. وشرحت أن هذا الرفض ناتج عن الخوف من التنمر الاجتماعي والضغط المجتمعي الذي قد يتعرض له الأفراد، وهو ما ينعكس على الأسرة بشكل عام. بل إن هذا الضغط يزداد في الأوساط الرياضية نفسها، حيث ترفض بعض الأندية المشاركة الفاعلة للنساء في الرياضة.
وفي هذا الإطار، تعتبر الصحفية الرياضية هيام تاج السر أن التنمر ضد اللاعبات قد وصل إلى مستوى مقلق، إذ لم يقتصر على منصات التواصل الاجتماعي، بل امتد إلى الأندية نفسها، مما قد يحد من رغبة اللاعبات في الاستمرار أو تطوير مستواهن الرياضي. وتضيف تاج السر أن البعض في الوسط الرياضي لا يرون أهمية مشاركة النساء في كرة القدم إلا من باب استجابة لبعض الضغوط الدولية، وليس دعماً حقيقياً للرياضة النسائية.
من جانب آخر، فقد كانت التهديدات بالقتل جزءاً من التنمر الموجه ضد اللاعبات، حيث تعرض طاقم التحكيم النسائي للتهديد بالقتل، وهو ما يشير إلى مدى العنف الذي يمكن أن يتعرض له كل من يقتحم هذا المجال. الحكمة الدولية السودانية رماز عثمان أكدت أنها تعرضت كذلك لنظرات استهجان في مجتمعها بسبب اختيارها مجال التحكيم الرياضي، ولكنها استطاعت أن تتجاوز هذه المعوقات بمساندة أسرتها.
أما من الناحية القانونية، فقد أكدت المحامية نون كشكوش أن القوانين السودانية لا تمنع ممارسة النساء لكرة القدم، بل إن أي اعتداءات عبر منصات التواصل الاجتماعي تُعد جرائم معلوماتية يعاقب عليها القانون، وتستطيع اللاعبات تقديم شكاوى ضد الصفحات أو الأفراد الذين يسيئون إليهن. ورغم ذلك، يبقى السؤال: لماذا لا يزال هناك من يرفض فكرة أن تكون المرأة جزءاً من هذا المجال؟
وفي النهاية، ترى دكتورة ابتسام محمود أحمد، استشارية علم النفس، أن التنمر على لاعبات كرة القدم في السودان يمثل “اغتيالاً لشخصياتهن”، خاصة في ظل العنف اللفظي المنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وتؤكد أن هذه التعليقات تؤثر بشكل كبير على الحالة النفسية للاعبات، بل وتجعلهن أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، مما يدفع بعضهن إلى إغلاق حساباتهن على الفيسبوك والابتعاد عن الأضواء. ومع ذلك، تدعو دكتورة ابتسام اللاعبات إلى عدم الاستسلام لتلك التعليقات السلبية والتمسك بحلمهن في تحقيق النجاح رغم كل الصعاب.