رحيل محمد رحيم: وداعاً لروح الموسيقى العربية التي لن تعود
رحل عنا اليوم الفنان والملحن المصري الكبير محمد رحيم، ليفجعنا بوفاته التي تركت في قلوب محبيه فراغاً لا يمكن تعبئته، فقد أعلن عدد من أصدقائه المقربين عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن رحيله، ليعجز الجميع عن تقبل الخبر الحزين.
في لحظة لم نكن مستعدين لها، اختار محمد رحيم أن يغادر عالمنا تاركًا وراءه إرثًا فنيًا سيظل محفورًا في ذاكرة كل من عشق صوته وألحانه، وهو الذي كان له دور بارز في تشكيل معالم الموسيقى العربية الحديثة.
محمد رحيم لم يكن مجرد ملحن عادي، بل كان روحًا فنية في سماء الموسيقى المصرية والعربية. بدأ رحيم مشواره الفني منذ سنوات طويلة، معتمدًا على تعليمه الأكاديمي في كلية التربية الموسيقية، حيث أسس في تلك المرحلة البدايات التي كانت بمثابة حجر الأساس لمستقبل فني حافل بالإبداع.
في تلك الأيام، التقى محمد رحيم بالفنان حميد الشاعري في إحدى الندوات داخل الكلية، حيث أتيح له أن يبرز موهبته المبدعة في التلحين. كانت تلك اللحظة نقطة تحول في حياته، فمذاك، أصبح محمد رحيم جزءاً من الحياة الفنية المصرية.
وكان اللقاء مع عمرو دياب في تلك الندوة الحاسمة، الذي دفعه للغناء لأول مرة، حينما سمع دياب ألحانه التي كانت أولى خطواته نحو سماء النجومية. غنّى عمرو دياب أغنية “غلاوتك” من ألحان رحيم، لتصبح هذه الأغنية علامة فارقة في مسيرته الفنية، وليبدأ بعدها في التعاون مع العديد من نجوم الغناء في الوطن العربي مثل نانسي عجرم، محمد منير، وإليسا. لم يكن رحيم مجرد ملحن، بل كان صاحب رؤية فنية متجددة جعلته يتربع على قمة النجاح في مجال التلحين، مقدمًا ألحانًا مازالت تقاوم الزمن، وكان له فضل كبير في إثراء الساحة الموسيقية العربية.
لكن نجاح رحيم لم يكن محصورًا في التلحين فقط، بل قرر أن يسلك طريق الغناء، ليصدر أول ألبوماته عام 2008 بعنوان “كام سنة”. وكأنما أراد أن يثبت للعالم أنه ليس فقط مبدعًا في الألحان، بل قادر على أن يكون نجمًا في عالم الغناء أيضًا. ألبومه كان يحمل بين طياته أغنيتي “عارفة” و”إرجع يلا”، اللتين لقيتا استحسانًا جماهيريًا واسعًا، ليخطو بذلك نحو التألق في مساره الفني الخاص. لم يكن ذلك الألبوم سوى بداية جديدة لرحلة فنية طويلة تخللتها محطات عديدة وأعمال مميزة، كان فيها محمد رحيم صوتًا حزينًا وجميلًا، يحمل هموم الناس في كل لحن وأغنية.
رحيم لم يتوقف عند الغناء والتلحين فقط، بل كان له حضور في الدراما المصرية أيضًا، حيث ساهم في تلحين وغناء العديد من الأغاني التي أضفت طابعًا خاصًا على الأعمال الدرامية التي عرضت على شاشات التلفزيون. من أبرز تلك الأعمال كان “حكاية حياة” و”سيرة حب”، حيث أضاف ألحانه التي كانت بمثابة موسيقى تصويرية لحياة الشخصيات الدرامية، فكان لكل لحن قصة وحكاية تلامس مشاعر وأحلام الناس.
كان محمد رحيم في كل لحظة من مسيرته الفنية يمزج بين روحه الإبداعية وبين قدرته الفائقة على التعبير عن واقع الحياة بكل أبعادها، سواء كانت لحظات فرح أو حزن أو ألم أو حب. لم تكن ألحانه مجرد ألحان، بل كانت تعبيرًا عن الحكايات التي تحملها قلوب الناس في كل زاوية من زوايا العالم العربي. كانت أغانيه تمثل المزيج المثالي من الفن والكلمات، التي تبقى راسخة في الذهن كما لو كانت جزءًا من الحياة اليومية.
ورغم الشهرة الواسعة التي حققها، كان محمد رحيم دائمًا ما يحتفظ بتواضعه، ولم يكن يسعى وراء الأضواء بقدر ما كان يهتم بتقديم عمل فني يلامس القلوب. لقد كانت ألحانه مصدر إلهام للكثيرين، وخصوصًا للشباب الذين رأوا فيه نموذجًا للفنان الذي لا يساوم على مبادئه الفنية، حتى لو كان ذلك يعني الابتعاد عن مسارات النجاح التقليدية.
اليوم، ونحن نودع محمد رحيم، نعلم أن رحيله ليس مجرد فقدان لشخص، بل هو فقدان لروح من أروع الأرواح التي مرّت على عالم الفن العربي. لن يكون هناك صوت آخر يشبهه، ولن تكون هناك ألحان جديدة تحمل نفس الإحساس الذي كان يقدمه. أصبح العالم الفني اليوم أضعف بكثير، فقد غادره أحد أروع المبدعين الذين لطالما أسعدوا قلوبنا بأعمالهم، وتركوا فينا جرحًا عميقًا لن يشفى بسهولة.
رحيل محمد رحيم لن يُنسى، وألحانه ستظل حية في قلوبنا، وذكراه ستظل في كل زاوية من عالمنا الفني. كان محمد رحيم أكثر من مجرد فنان، كان جزءًا من حياتنا اليومية، جزءًا من أحلامنا وآلامنا، ولم يكن يستطيع أي فنان آخر أن يضاهي تأثيره في الساحة الفنية العربية كما فعل. سنظل نتذكره بكل حب وتقدير، ولن ننسى أبدًا ألحانه التي جعلت لحظاتنا أكثر جمالًا وأملًا.