الاقتصاد المصري ينهار على وقع التدهور المريع، والحكومة لا تمل ولا تكل في تجاهل معاناة المواطن الفقير، بل تواصل سعيها غير المبرر لتقليص المخصصات الاجتماعية في موازنتها السنوية بشكل غير مسبوق. في ظل هذه الأوضاع الكارثية التي يعيشها ملايين المصريين، تأتي الحكومة لتلقي اللوم على الدعم الاجتماعي، مدعية أن العبء الذي يشكله على الموازنة العامة هو السبب الرئيس في الأزمة الاقتصادية الحالية.
لكن هذا الادعاء لا يعدو أن يكون محاولة رخيصة لتغطية الفساد المستشري في مؤسسات الدولة وسوء الإدارة الذي أوصل البلاد إلى هذه الحافة من الانهيار.
يستمر الحديث الرسمي حول الدعم الاجتماعي بشكل مكرر وممل، حيث تروج الحكومة، عبر تصريحاتها العاجزة، بأن هذا الدعم يعد عبئاً كبيراً على الموازنة رغم أن الأرقام تثبت عكس ذلك. فلقد تراجع حجم الدعم المخصص للسلع الأساسية بشكل مخيف خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يثير تساؤلات عدة حول أولويات الحكومة التي تسعى دوماً إلى تحميل المواطن البسيط وزر سياساتها الاقتصادية الفاشلة.
وبالرغم من هذا التراجع الفادح في الدعم، تظل بعض وسائل الإعلام المحلية تردد الأرقام الحكومية بشكل سطحي دون أن تتطرق إلى تأثير التضخم الحاد وتراجع قيمة الجنيه المصري الذي يعصف بمقدرات المواطنين.
أصبح الخبز، الذي يعد العنصر الغذائي الأساسي على مائدة ملايين الأسر المصرية، يمثل أملهم الأخير في البقاء على قيد الحياة، لكن الحكومة لم تكترث لهذا الواقع المأساوي. فقوبل هذا الدعم بتقليص مستمر، ليترك الفقراء أمام خيارين مريرين: إما الفقر المدقع أو المجاعة. هذه هي الحقيقة التي يغفل عنها المسؤولون الذين لا يتوقفون عن الحديث عن الأرقام المجردة للدعم دون النظر إلى الواقع المرير الذي يعاني منه الشارع المصري. إذا كان الدعم في الموازنة العامة في نظرهم “عبئًا” فكيف يمكن تفسير تخصيص جزء ضخم من الموازنة لخدمة الديون التي أثقلت كاهل البلاد؟
بالفعل، فإن المؤشرات الاقتصادية تؤكد أن الحكومة المصرية قد اختارت الاستمرار في دفع فاتورة الديون على حساب الشعب، وهو ما ينعكس بشكل كارثي على الموازنة العامة. فوفقًا للبيانات الرسمية، بلغ إجمالي سداد القروض في موازنة 2025/2024 نحو 1.6 تريليون جنيه، فيما وصل إجمالي الفوائد المدفوعة على تلك القروض إلى 1.83 تريليون جنيه. وبذلك، يصبح إجمالي خدمة الدين، الذي يشمل الأقساط والفوائد، نحو 3.44 تريليونات جنيه، وهو ما يشكل 62.1% من إجمالي استخدامات الموازنة العامة، في حين تذهب باقي النسبة إلى باقي بنود الإنفاق الحكومية بما فيها تلك التي تتعلق بالدعم الاجتماعي.
لكن هنا تكمن المأساة الحقيقية. ففي وقت كان من المفترض أن تركز الحكومة على إعادة توزيع الموارد بشكل يحقق العدالة الاجتماعية ويحسن من حياة المواطن المصري، نجد أنها تخصص نسبة هائلة من موازنتها لسداد فوائد وأقساط الديون، فيما يتم تقليص مخصصات الدعم التي كان من المفترض أن تكون حجر الزاوية في سياسة الحماية الاجتماعية. إن هذه السياسة تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الحكومة المصرية لا تعير اهتمامًا لاحتياجات المواطنين ولا لحماية الطبقات الفقيرة التي تتزايد معاناتها يومًا بعد يوم.
يتضح من الأرقام أن أولويات الحكومة لا تصب في مصلحة المواطن بل في خدمة الدائنين الذين لا هم لهم سوى الحصول على أرباحهم من مصر المنهكة. ومع استمرار هذه السياسات القاسية التي تعكس فسادًا صارخًا وسوء إدارة على جميع الأصعدة، فإن الأمور تسير نحو الانهيار الشامل. وبالنظر إلى أن 62% من موازنة الدولة تذهب لسداد الديون، نجد أن غالبية الأموال التي يتم تحصيلها من الضرائب والجمارك ومن مختلف الإيرادات الحكومية تذهب إلى جيوب من لا يحتاجون إليها، بينما تزداد معاناة المواطن البسيط بشكل مستمر.
إذاً، أين يذهب كل هذا المال؟ وكيف يمكن للحكومة أن تبرر استمرار تلك السياسات التي تدمر الاقتصاد الوطني وتزيد من الفجوة بين الطبقات الاجتماعية؟ هذه الأسئلة تظل دون إجابة في ظل غياب الشفافية والمحاسبة، حيث يستمر الفساد في اجتياح مؤسسات الدولة. فمن المثير للاهتمام أن هذه السياسات القاسية والمجحفة تأتي في وقت يتزايد فيه حجم الدين العام الخارجي والمحلي، ما يضع البلاد في دائرة مفرغة من العجز والفقر.
وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن إصلاحات اقتصادية موعودة، إلا أن الواقع يثبت عكس ذلك تمامًا. فلا برامج إصلاح حقيقية وفعالة ظهرت على الأرض، ولا تحسن ملحوظ في الظروف المعيشية للمواطنين. بدلًا من معالجة القضايا الأساسية مثل البطالة والفقر، تواصل الحكومة تصدير الأزمات إلى الشعب المصري، دون أن تجد حلاً حقيقيًا يضع حدًا لهذه المأساة المستمرة.
إن ما يحدث في مصر اليوم هو مأساة حقيقية لا يعترف بها المسؤولون الذين يحاولون إخفاء فسادهم واستهتارهم من خلال تلاعب بالأرقام. في حين أن المواطن البسيط هو الذي يدفع الثمن، فإن الحكومة التي تدعي أن لديها حلولاً اقتصادية فاشلة لا تقدم أي حلول جادة للخروج من الأزمة. وما زال المواطن المصري يئن تحت وطأة قرارات الحكومة التي لا تهم إلا سد فجوات الديون على حساب لقمة عيشه.
إن الأرقام تتحدث بصوت عالٍ: 62.1% من الموازنة مخصصة لخدمة الديون، بينما يتم تقليص الدعم الاجتماعي الذي يمس حياة المواطنين بشكل مباشر. هذه السياسة المدمرة قد تؤدي إلى مزيد من الأزمات في المستقبل القريب، ما لم تتخذ الحكومة خطوات جادة لتغيير هذا المسار القاتل الذي يهدد مستقبل مصر.