تتساقط المدن المصرية واحدة تلو الأخرى في مستنقع الفوضى والعشوائية، في مشهد كارثي يعكس تراجعًا غير مسبوق في كل جوانب الحياة العمرانية.
من شوارع القاهرة التي كانت يوما ما جوهرة الشرق، إلى قلب المناطق التاريخية، لا تجد مكانًا يخلو من التشويه البصري الذي تغذيه السياسات الفاشلة والفساد المستشري.
ما كان ينبغي أن يكون حيّزًا للنظام والراحة البصرية، أصبح الآن ساحة للمعلقات الدعائية والتشويه المُتعمّد الذي لا يرحم هوية هذا البلد العريق.
الإعلانات التجارية تدمّر جمال المدن
في العديد من شوارع القاهرة الكبرى، تختلط الإعلانات التجارية مع الجدران التاريخية للمباني الحكومية، لتُحولها إلى لوحات إعلانات عملاقة، تغزو كل مكان من الساحات العامة إلى محطات المترو.
حتى في الأماكن التي كان يُفترض أن تحظى بالحماية، مثل الجامعات والمستشفيات، لم تسلم من هذا المد التجاري المزعج. تنتشر الإعلانات عن الشقق المفروشة، وأدوية غير مثبتة علميًا، وأطباء وهميين، وكذلك عروض رقية شرعية، وكأن البلاد لم يعد فيها ما يستحق الحفاظ عليه.
مشهد مروع يفقد الأبصار القدرة على التمييز بين الأماكن العامة والمناطق الخاصة في ظل غياب أي قانون يحمي هذه الأماكن.
القاهرة تشهد التدمير المتسلسل للهوية البصرية
لم يعد لأحياء القاهرة التاريخية أو الأحياء الراقية أي هوية تميزها عن غيرها من المناطق العشوائية. إذا كان الأمر كذلك في قلب العاصمة، فما بالنا بالمناطق النائية؟ من شارع التحرير في الدقي إلى ميدان المنيب، تجد الجدران مغطاة بالإعلانات الممزقة والمشوهة، تاركة المدينة في حالة من التشوش البصري التام.
وفي تلك المناطق، تجد المحال التجارية تتجاوز حدودها، تُلقي بظلالها على الرصيف وعلى الطريق العام، ما يضر بالمواطنين بشكل غير مسبوق. هذا التدهور الحاصل ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة لفساد المحليات وعدم تطبيق القوانين بشكل فعّال.
الفساد الإداري يمنع تنفيذ أي قانون أو لوائح
إن السبب الجوهري وراء هذا التفشي في ظاهرة التشويه البصري يعود إلى الفساد المنتشر في الإدارات المحلية. فالمسؤولون في المحليات لا يبالون بتطبيق أي قانون يحمي المدن من هذا الانهيار.
بدلاً من فرض الرقابة، يعتمد الكثيرون على الوساطة والمحسوبية والرشوة لتمرير المصالح الشخصية. أسوأ ما في الأمر هو أن المحليات تواصل في استنزاف موارد الدولة دون أن تُظهر أي تحرك ملموس أو قاعدي للحد من هذه المخالفات.
فالمسؤولون في هذا القطاع ليس لديهم الكفاءة المهنية الكافية لتنفيذ أدوارهم، بل يكتفون بالكلام الفارغ الذي لا يغني ولا يُسمن من جوع.
الوزارات والجهات الحكومية غائبة عن الساحة
المسؤولون في الوزارات المعنية بالمشاريع العمرانية لا يُبدون أي اهتمام بالوضع الكارثي الذي تمر به المدن المصرية. على الرغم من الوعود العديدة التي تقدمها الدولة بخصوص مشاريع الهوية البصرية، إلا أن هذه المشاريع في كثير من الأحيان لا ترى النور.
تقارير كثيرة تؤكد أن بعض المدن لم تُنفذ فيها خطة الهوية البصرية رغم تخصيص ميزانيات ضخمة لها. على سبيل المثال، تم تخصيص 380 مليار جنيه لتنفيذ هذه الخطط، لكن الجزء الأكبر من هذه الأموال قد ضاع هباءً في مشاريع العاصمة الكبرى فقط، تاركًا باقي المدن في حالة يرثى لها.
الفشل الذريع في إدارة ملف الهوية البصرية
الحديث عن الهوية البصرية للمدن والقرى المصرية يثير الفزع والقلق. الدولة تنفق الأموال الطائلة في محاولات فاشلة لإنقاذ المدن من التشويه، ولكن كل تلك الجهود تذهب سدى بسبب غياب التنسيق بين الجهات الحكومية وغياب الخبرات في مجال التنسيق الحضاري.
الأسوأ من ذلك هو أن مشروعات مثل “حياة كريمة” التي من المفترض أن تُحسن من شكل القرى المصرية، لا تلتزم بأية معايير أو معايير واضحة، بل تقتصر على “البرامج” التي تفتقر تمامًا إلى الدراسة المستفيضة أو الفهم العميق للهوية الثقافية والتاريخية للمناطق.
إزالة المخالفات؟ لم ولن يحدث
ومع ذلك، يستمر الفشل في ملف الإزالات. في ظل غياب الرقابة الفعّالة، تتحول الأبنية المخالفة إلى رموز للفوضى، بينما لا يتم إزالة المخالفات بشكل جاد.
ومع تزايد عدد المخالفات، تتراكم المشكلات مع استمرار الكوارث العمرانية بلا حلول حقيقية، بل تحت سمع وبصر المسؤولين الذين يفضلون تجاهل هذه القضايا حتى تصبح القرى والمدن كومة من الخراب. القانون موجود، لكنه لا يُنفذ، والمخالفات تزيد دون رادع.
الحل في ثورة عمرانية حقيقية
إصلاح هذا الوضع يتطلب أكثر من مجرد تصريحات فارغة. يجب أن يكون هناك ثورة حقيقية في طريقة إدارة المدن المصرية. يتطلب الأمر معاقبة المسؤولين الفاسدين، وإصلاح المحليات، وتوفير كوادر مهنية مؤهلة للتعامل مع ملف التنسيق الحضاري.
علاوة على ذلك، يجب على الدولة أن تُولي اهتمامًا أكبر لتطوير البنية التحتية والمرافق العامة مع الالتزام بالهوية البصرية لكل منطقة، مع العمل الجاد على تنفيذ القوانين التي تحمي المدن من التشوه.