في مشهد مؤلم تتجسد فيه معاناة مئات الأمهات المصريات اللواتي يواجهن كابوسًا يوميًا يكاد يكون أكبر من أي مأساة أخرى، الأطفال الذين يعانون من أمراض وراثية نادرة يحتاجون إلى ألبان علاجية خاصة للحفاظ على حياتهم، إلا أن الحكومة المصرية تواصل تقاعسها عن توفير هذه الألبان،
مما يضع حياة هؤلاء الأطفال في خطر حقيقي، في الوقت الذي يجب أن تكون فيه الرعاية الصحية على رأس أولويات المسؤولين، نجد أن الإهمال والفساد يهيمنان على الموقف، حيث تعجز الدولة عن توفير اللبن العلاجي لهؤلاء المرضى بشكل منتظم ودائم في المحافظات المختلفة
الألبان العلاجية هي الشريان الذي يمد هؤلاء الأطفال بالحياة، فالطفل الذي يولد بمرض وراثي لا يستطيع تناول الألبان العادية مثل باقي الأطفال، وإذا حرم من الألبان المخصصة له، يعاني من مضاعفات صحية خطيرة قد تؤدي إلى الوفاة، وتقوم بعض الأمهات في محاولات يائسة باللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام للتعبير عن معاناتهن، ولكن لا حياة لمن تنادي،
فالحكومة المصرية في صمت مطبق وكأن هؤلاء الأطفال لا ينتمون إلى وطن يفترض أن يحمي حقوق مواطنيه في الصحة والحياة
وفي ظل هذا التجاهل الحكومي المستمر، يستمر الفساد في نخاع المؤسسات الصحية، حيث يتم تحميل المستشفيات والهيئات الصحية بكميات محدودة من الألبان العلاجية التي لا تكفي لاحتياجات الأطفال المرضى، كما تتزايد صعوبة الحصول عليها في المحافظات البعيدة عن العاصمة، مما يجعل معاناة الأسر أكثر قسوة.
واحدة من الأمهات صرحت بحزن “كل يوم أخرج من بيتي وأتوجه للمستشفى بحثًا عن الأمل في جرعة لبن تنقذ طفلي، ولكن لا أجد شيئًا سوى الأبواب المغلقة والوعود الكاذبة”. تضيف أخرى “طفلي مريض بمرض وراثي لا يمكنه تناول اللبن العادي، ولا أستطيع تحمل تكلفة الألبان المستوردة، أصبحت حياتي مملوءة باليأس والمستقبل مجهول”. هذه الشهادات ليست سوى غيض من فيض من معاناة يومية مستمرة
الوضع في مصر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتفاقم بسبب الفساد المنتشر الذي يقف عقبة رئيسية أمام توفير الرعاية الصحية اللازمة، فالفساد لا يظهر فقط في عدم توزيع الألبان العلاجية بشكل عادل، بل يمتد إلى سرقة الموارد وتوجيهها لغير مستحقيها.
فقد أكدت بعض التقارير أن الألبان التي كان يجب أن تصل إلى الأطفال المرضى في بعض المستشفيات يتم بيعها في السوق السوداء بأسعار مضاعفة، ما يجعل الأمهات غير قادرات على تأمين اللبن لأطفالهن. والأنكى من ذلك أن بعض المستشفيات تعاني من نقص شديد في هذه الألبان، في حين أن المخازن ممتلئة بها ولكن لا يتم توزيعها بحجة عدم توفر الكميات الكافية لتلبية احتياجات كل الأطفال
وفي هذا الإطار، تساءلت إحدى الأمهات “كيف يمكن أن يحدث هذا في دولة من المفترض أن تكون فيها الرعاية الصحية من أولويات الحكومة؟ أين دور المسؤولين في حماية أطفالنا من الموت البطيء؟”. الإجابة على هذا السؤال تبدو بعيدة المنال في ظل استمرار هذه السياسات الفاسدة التي تترك الأطفال في خطر دائم
المسؤولون في وزارة الصحة على رأسهم الوزير خالد عبد الغفار يتعرضون لانتقادات واسعة نتيجة لهذا الإهمال الفادح، حيث أن مطالب الأمهات بتوفير الألبان العلاجية بشكل دائم وبكميات كافية لم تلق أي استجابة جادة من قبل الوزارة.
وفي تصريح أخير أثار غضب الكثيرين، ادعى أحد المسؤولين أن الألبان متوفرة ولكن هناك سوء توزيع. هذه التصريحات لم تلق سوى السخرية والغضب من قبل الأهالي الذين يرون بأعينهم كيف أن أطفالهم يموتون يومًا بعد يوم نتيجة لهذا الإهمال وسوء الإدارة
وزارة الصحة المصرية تبدو غير مكترثة بهذا الوضع الكارثي الذي يواجهه الأطفال المرضى، ولا تزال عاجزة عن وضع آليات تضمن توفير الألبان العلاجية بشكل دائم ومنتظم، فيما تعاني أسر هؤلاء الأطفال من نقص حاد في الألبان المخصصة،
مما يجبرهم على شراء اللبن بأسعار خيالية من السوق السوداء، هذا الوضع يثير العديد من التساؤلات حول دور الحكومة في مواجهة هذا الفساد المستشري، إذ كيف يمكن لدولة تدعي الاهتمام بصحة مواطنيها أن تفشل في توفير أحد أهم أساسيات الحياة لهؤلاء الأطفال؟
وفي الوقت الذي يتم فيه تحميل الأسر البسيطة عبء البحث عن الألبان العلاجية بأسعار فاحشة، تشير الأرقام إلى أن عدد الأطفال الذين يعانون من الأمراض الوراثية في مصر يقدر بالآلاف،
مما يجعل حجم الكارثة أكبر بكثير مما يظهر على السطح، فهل تنتظر الحكومة المزيد من الضحايا قبل أن تتحرك لإنقاذ هؤلاء الأطفال الأبرياء؟
تحتدم التساؤلات حول دور الأجهزة الرقابية في هذا الملف الحيوي، إذ كيف يتم السماح بحدوث مثل هذا التلاعب في أرواح الأطفال؟ هل تتواطأ بعض الجهات مع تجار السوق السوداء لزيادة الأرباح على حساب الأطفال المرضى؟
أم أن هناك قصورًا في الرقابة والمتابعة من قبل المسؤولين الذين لا يشعرون بحجم المأساة التي يعيشها هؤلاء الأطفال وأسرهم يوميًا؟
الأمر ليس مجرد نقص في الألبان العلاجية، بل هو انهيار كامل لمنظومة الرعاية الصحية في مصر التي يفترض أن تضمن حق المواطن في العلاج والحياة، في وقت تستمر فيه الحكومة في إصدار البيانات البراقة التي تتحدث عن تطوير القطاع الصحي،
نجد أن الواقع يروي قصة مختلفة تمامًا، قصة مليئة بالإهمال والفساد الذي يدمر أرواح أطفال أبرياء ينتظرون بصيص أمل، بينما تستمر الحكومة في تجاهل استغاثات الأمهات اللواتي لا يملكن سوى الصراخ والعويل في وجه الجدار الصامت