مصر وإيران قصة في التاريخ لها العجب، دخلت إيران التاريخ عند منتصف القرن السادس قبل الميلاد، بينما كانت مصر تخرج من التاريخ، بعد أن تربعت على عرش الزمان والمكان، وتسيدت حضارات العالم القديم على مدى ثلاثة آلاف عام، عندما كانت مصر تخرج من التاريخ، كان الفرس والإغريق واليهود يطرقون لأول مرة أعتاب، ثم أبواب الحضارة والتاريخ، خرجت مصر وحضارتها، كما خرج العراق وحضارته، ودخلت فارس بعنف وقوة وجسارة، ميزت طلعتها الأولى في سماء التاريخ، ولا تزال روح تلك الطلعة القديمة تميز الروح الفارسية في كل عهودها حتى اليوم والغد، روح قورش ومن بعده قمبيز، ما زالت تسكن أعماق الوجدان الفارسي، لا فرق في ذلك بين عهود قديمة، كانت تحمل فيها اسم بلاد فارس، أو عهود حديثة تحمل فيها اسم إيران فقط منذ عام 1935، هذه الروح الإمبراطورية في إيران أشبه ما تكون بالروح الإمبراطورية في الصين، هي الحافز التاريخي ورافعته ودافعته، حتى في أشد فترات الضعف وفقدان المناعة والانقسام الداخلي والغزو الخارجي والخضوع للحكم الأجنبي. هذه الروح الإمبراطورية لها ظل من الحقيقة في مصر الحديثة، فلم يكن محمد علي باشا أو جمال عبد الناصر غير أصداء موصولة بالروح الإمبراطورية لقائد عظيم مثل تحتمس الثالث، ولا يزال المصريون- رغم ما آلت إليه أحوالهم من ضعف واضمحلال- يعتقدون في بلدهم، أنهم مركز حضارة وقوة جذب تاريخي، يضعف، لكن لا يفقد روح الاستمرار حتى الخلود.
مثلما دخلت إيران بوابة التاريخ القديم، وخرجت مصر من البوابة ذاتها، فكذلك تطلعت إيران لقيادة الشرق الأوسط المعاصر، عندما قررت مصر، أن تنكفئ على ذاتها، بعد انكسار الناصرية خلا الجو أمام إيران البهلوية؛ لتكون القوة الأولى في الشرق الأوسط مدعومة من الغرب وأمريكا ومرتبطة بمودة وثيقة مع إسرائيل، ثم واصلت إيران الثورية الطموح الإمبراطوري في الإقليم بعد اتفاق كامب ديفيد وحصار العرب لمصر ومقاطعتهم لها، فلم تعد مصر قائدة العرب، ولم يكن لأحد من العرب علاقات معها غير سلطنة عمان والسودان.
ومثلما تعرضت مصر الخديوية لتسلل المصالح والتدخل والنفوذ والاستغلال الأوروبي، كذلك، وفي الوقت ذاته، تعرضت إيران القاجارية، ثم البهلوية، لمثل ذلك من تسلل المصالح والاستغلال والنفوذ الأوروبي، هذه المعاناة الواحدة مما قرب بين الشعبين ونخب البلدين، وصهر نضالهما في بوتقة واحدة، مصر تعرضت لاحتلال بريطاني مسلح دام ثلاثة أرباع قرن، لم يحدث مثل ذلك في إيران إلا لفترة محدودة أثناء الحرب العالمية الثانية إذ تعرژضت لغزو روسي بريطاني متزامن 1941، غزاها الروس من شمالها، غزاها الإنجليز من جنوبها، كان السبب مخافة أن تسقط إيران أمام الغزو الألماني؛ فتذهب منابع البترول الإيراني لقوات المحور .
على مدار القرن العشرين تشابه البلدان أكثر مما اختلفا، إلا في الربع الأخير منه حيث كان الشاه هو السادات الفارسي وكان السادات هو الشاه العربي ثم تبنت الثورة والجمهورية الإسلامية والخميني ذاته خطاباً معادياً لمصر لم يُفرق بين سياسات السادات التي بات عليها إجماع معارض مع نهاية حكمه وبين مصر البلد والوزن والتاريخ والحضارة.
بدأ القرن العشرون في البلدين بكفاح ليبرالي ديمقراطي دستوري ضد التدخل الأجنبي، كما ضد طغيان الحكام سواء من آل قاجار في إيران أو سلالة محمد علي باشا في مصر، كانت الثورة الدستورية في إيران التي استغرقت الربع الأول من القرن العشرين متزامنة مع ثورة 1919 م، وما سبقها من نضالات الحزب الوطني ومصطفى كامل ومحمد فريد، حتى إذا جاء عقد الأربعينيات من القرن العشرين، كان الغليان في البدين قد بلغ ذروته، وكانت التيارات اليسارية بدأت تطرح نفسها بقوة، كما زادت مشاعر العداء ضد الغرب وتبلورت مشاعر، تميل للمحور بقيادة الألمان، هنا، وفي وقت متزامن شهدت مصر وإيران حدثين عظيمين:
1 – عزلت بريطانيا وروسيا شاه إيران من منصبه 1941، وعينت مكانه نجله محمد رضا بهلوي، فكان أشبه بالخديوي توفيق الذي تولى عرش مصر، بعد أن خلع الإنجليز والفرنسيين والده الخديو إسماعيل، ومثل توفيق تيقن محمد رضا بهلوي، أن الغرب هو من يعزل حكام الشرق الأوسط أو يعينهم، ويحمي عروشهم، ومثل توفيق، رهن الشاه الجديد نفسه وبلده للغرب، مع فارق أن توفيق كان لا همة ولا طموح، أما الشاه فكان طموحه، أن يكون وكيل الغرب في الإقليم، لعله يظفر بموقع إمبراطوري مهيمن على جواره العربي، وغير العربي. وكما قامت الثورة العرابية في وجه توفيق، قامت ثورة دكتور مصدق على الشاه وعلى الهيمنة الغربية على موارد البلاد، فمثلما كانت ثورات العرابيين، وثورة 1919، وثورة يوليو 1952، وقودها عناصر من داخل الدولة؛ فكذلك كانت ثورة مصدق الذي كان يشعل موقع رئيس الوزراء رغم أنف الشاه، ذلك أن الدولة الحديثة سواء في مصر أو إيران هي آلة العمل السياسي سواء في الحكم أو المعارضة، الدولة هي الأساس، كانت وما زالت، بينما الشارع وقواه الاجتماعية، ليس أكثر من عنصر مساعد، كان وما زال مع تحسن طفيف لدور الشارع في ثورتي إيران 1979 ومصر 2011.
2 – هددت بريطانيا بعزل الملك فاروق 1942، أي بعد عام واحد، من عزل شاه إيران، وحاصرت دبابات الإنجليز قصر عابدين، وتغطرس السفير البريطاني، واقتحم القصر، وقرأ على الملك خطاب الإنذار بين الرضوخ أو العزل، في ذلك الوقت كانت هناك مراسلات بين ملك مصر وشاه إيران فيها ميول من الرجلين تجاه المحور والألمان ضد الإنجليز والحلفاء، وحسب الدكتور عبد الوهاب بكر، في دراسته المعنونة “العلاقات المصرية الإيرانية في عهد أسرة محمد علي 1805- 1952، فإن الملك فاروق أرسل في 29 يونيو 1941 برقية إلى طهران مفادها، أن لديه أدلة، بأن هيئة أركان حرب القوات البريطانية قررت احتلال منابع البترول الفارسية.
في مطلع عقد الخمسينيات من القرن العشرين، كانت مصر وإيران معاً، أقرب ما تكون كل منهما للأخرى، كانت حكومة مصدق في إيران، وحكومة النحاس الأخيرة في مصر، آخر حكومتين ديمقراطيتين وشعبيتين وثوريتين في وقت واحد، آخر زعيمين مناضلين ليبراليين ديمقراطيين، يحكمان بإرادة الشعب في مصر وإيران، قرر الدكتور مصدق قرارين عظيمين: قطع علاقات إيران مع إسرائيل، وتأميم شركات البترول الإيراني التي يحتكرها الإنجليز والغرب، وبعده بقليل ألغى مصطفى النحاس اتفاقية 1936، واتفاقية 1898، فأصبح الوجود البريطاني في مصر والسودان احتلالاً صريحاً، دون أي غطاء قانوني أو سند شرعي، وقاد النحاس أول مظاهرة مليونية في القاهرة، وانفتح الباب أمام الكفاح الشعبي المسلح ضد القوات الإنجليزية في منطقة القنال. وفي نوفمبر 1951 التقى الزعيمان العظيمان في القاهرة في لحظة من أمجد لحظات العلاقات بين البلدين والشعبين، بل لحظة من أزهى صحوات الوعي والضمير، وامتلاك الإرادة وحرية القرار ومواجهة قوى الهيمنة والاستعمار في الشرق الأوسط، وقع الزعيمان عدداً من اتفاقيات التعاون بين البلدين.
هذه لحظة مجيدة، لا يجوز في عرف الاستعمار، أن تمر دون عقاب، تواطأ الاستعمار الجديد أي الأمريكان مع الاستعمار القديم أي الإنجليز؛ لتدبير انقلاب عسكري لإسقاط حكومة الدكتور مصدق في إيران، وكان من جملة الترتيبات العسكرية، أن يتم استخدام القواعد البريطانية في منطقة القنال في الهجوم على إيران، كما كانت من الترتيبات كذلك أن تمر ناقلات حربية بريطانية وأمريكية من قناة السويس في طريقها لتدبير الانقلاب، فماذا كان موقف مصر، وهي ناقصة الاستقلال وتقبع تحت الاحتلال؟!
في ص 211 من كتاب “العلاقات المصرية الإيرانية بين الوصال والقطيعة 1970- 1981 ” يقول الدكتور سعيد الصباغ: “أعلنت مصر بكل وضوح في بيان أصدرته حكومة النحاس بتاريخ 23 يونيو 1951، ترفض فيه بكل قوة أمرين: ترفض استخدام القواعد العسكرية البريطانية الموجودة في القنال في الهجوم على إيران، كما ترفض بكل قوة عبور الناقلات الحربية المشاركة في الهجوم من قناة السويس”.
حدث هذا الموقف القوي ومصر كانت نصف مستقلة نصف محتلة، لكنها كانت تملك إرادتها، وتناضل في سبيل حريتها وكرامتها، وتصنع بالحق قيادتها للإقليم بالعمل والفعل وليس بالشعار والقول.
……………………………
من قرروا عقاب دكتور مصدق، وإزاحته بانقلاب عسكري دبره الإنجليز والأمريكان، بعدها بقليل قرروا عقاب النحاس باشا، وإزاحته إلى الأبد، فرحب الطرفان- الإنجليز والأمريكان- بانقلاب الضباط الأحرار على أمل، أنه أسهل حل للتخلص من قيادة النحاس والوفد الذي وقف ضد السلام مع إسرائيل، كما وقف ضد الاحتلال، كما وقف ضد الأحلاف العسكرية الغربية التي ابتكرها الأمريكان لاستلام السيطرة على الشرق الأوسط.
سقط دكتور مصدق، وعاد الشاه، وعادت علاقات إيران مع إسرائيل، وعادت إيران للخضوع للغرب، كما سقط النحاس، لكن لم يذهب عبد الناصر، كما أرد له الإنجليز والأمريكان، أن يذهب، لم يذهب لسلام مع إسرائيل، لم يذهب لتصالح مع الاحتلال، لم يذهب للانضواء تحت الأحلاف التي ابتكرها الأمريكان.
العكس تماما هو الذي حصل، فلم يكن عبد الناصر غير مزيج عبقري من دكتور مصدق والنحاس باشا، مع فارق أنه ابن ما بعد الحرب العالمية الثانية وليس الأولى، ابن النصف الثاني من القرن العشرين وليس النصف الأول، ابن أجندة من القضايا والأولويات غلب فيها الاجتماعي على السياسي، ورث عبد الناصر روح العزة والكرامة عند دكتور مصدق والنحاس، وطورها في عصر باتت المواجهة فيه ليس مع أوروبا الزائل سطوتها إلى أمريكا والصهيونية.
يستحيل فهم الثورة الإسلامية في إيران، كما يستحيل فهم قائدها الخميني، دون الإحاطة بدور عبد الناصر في هذه الثورة منذ مطلع الستينيات من القرن العشرين، لقد كان عبد الناصر- وريث مصدق والنحاس- شريكاً فعالاً ورقماً صحيحاً في الثورة الإيرانية، سواء بالدعم الأدبي أو الإعلامي أو السياسي أو الاستخباراتي، أو باستضافة المعارضة وتمويلها وتدريبها في معسكرات أنشاص، ومن تناقضات ناصر- السادات، أن الرئيس السادات كان على النقيض تماماً، سواء حين استقبل الشاه أو حين سمح للأمريكيين باستخدام بعض القواعد الجوية العسكرية المصرية في هجومهم على إيران لتحرير الرهائن الأمريكان الذين احتجزهم الثوار، وهو الهجوم الذي أخذ اسم مخلب النسر في خواتيم إبريل 1980، كانت الحكمة السياسية تقتضي من الرئيس السادات، أن يستلهم حكمة النحاس باشا، ولو كان فعل ذلك؛ لكان أعفى البلدين من مرارات لا يمحوها الزمن.
……………………………………………………………………….
لقد كان عبد الناصر بعضاً من إلهام كما بعضاً من وقود الثورة الإيرانية، سواء في حياته أو بعد مماته.
وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.