في مشهدٍ يندى له الجبين ويكشف عن حجم الكوارث التي تعصف بالمؤسسة الأزهرية العريقة، تُظهر الحكومة المصرية تقاعسًا فاضحًا في إدارة التعليم الأزهرى، الذي كان يومًا مناراتٍ للعلم، لتصبح اليوم تلك المنارة غارقة في مستنقع من المشاكل التي تهدد جيلًا كاملًا.
فمنذ سنوات، كانت المؤسسة الأزهرية، بقيادة قطاع المعاهد الأزهرية، نموذجًا للاستقرار، لكن تقاعس الحكومة عن اتخاذ خطوات جادة لعلاج مشاكل المعاهد الأزهرية قد دفعها لتبني حلولًا عاجلة، لكن بعواقب كارثية.
ففي الوقت الذي يواصل فيه قطاع المعاهد الأزهرية الإعلان عن حاجته إلى معلمين لسد العجز الكبير في مختلف التخصصات، جاء التصريح الأخير من الشيخ أيمن عبد الغني، رئيس قطاع المعاهد الأزهرية، ليكشف عن فداحة الموقف، حيث أُعلن عن حاجة الأزهر إلى معلمين لتدريس المواد الشرعية واللغة العربية مقابل أجر ضئيل يصل إلى 50 جنيهاً فقط للحصة الواحدة.
هذا الإعلان، الذي جاء بعد زيادة ضخمة في أعداد الطلاب، لم يتضمن أي ذكر لمعايير الاختيار أو المواصفات التي يجب أن تتوافر في المعلمين لضمان كفاءتهم وقدرتهم على التعامل مع المناهج وطرق التدريس، ما أثار غضب أولياء الأمور وأدى إلى حالة من الاستياء العارم بين خبراء التعليم.
الفساد الإداري والتخبط الحكومي الذي يعيشه التعليم المصري أصبح واضحًا للجميع، وخصوصًا في المؤسسة الأزهرية التي كانت لسنوات عدة تعتبر مرجعًا لأبناء الشعب المصري.
منذ سنوات، وتحديدًا في السنوات القليلة الماضية، بات أولياء الأمور يشعرون بالقلق من فوضى القرارات في وزارة التربية والتعليم، ما دفعهم للبحث عن بديل أكثر استقرارًا، فوجدوا أن التعليم الأزهرى هو الملاذ الآمن لأبنائهم بعيدًا عن هذه الفوضى العارمة التي تعيشها المدارس الحكومية.
ولكن اليوم، يبدو أن هذا البديل بدأ ينهار على وقع تخبطات الحكومة، ولم تعد المعاهد الأزهرية بمنأى عن الأزمة.
وإن تدهور التعليم الحكومي كان دافعًا رئيسيًا وراء هروب أولياء الأمور نحو المعاهد الأزهرية، التي كانت تعتبر بمثابة الأمل في مستقبل أكثر استقرارًا، حيث يثق الناس في جودة التعليم فيها.
ولكنه الآن أصبح يشعر بالأسى حينما يرى هذا البديل يتراجع إلى الوراء. وفيما يتعلق بنظام الحصص، الذي بدأ يتبع في المعاهد الأزهرية لتغطية العجز في المعلمين، وأن هذا النظام ليس حلًا حقيقيًا، بل هو مجرد مسكن مؤقت يعمق الأزمة ولا يحل جذريًا مشكلات التعليم الأزهرى.
وفي محاولة لاحتواء الأزمة، اقترح الخبراء ثلاثة حلول رئيسية تتعلق بتوظيف المعلمين وتطوير النظام التعليمي داخل المعاهد الأزهرية.
الأول هو فرض قرار بتعيين المعلمين بشروط صارمة، وإجراء اختبارات فنية متعمقة تضمن كفاءة المعلم قبل تعيينه في أي من المدارس الأزهرية أو الحكومية أو الخاصة. الثاني هو تبني نظام فصول دراسية أقل في عدد الطلاب والمقررات الدراسية، بما يتيح الفرصة لتقليص الأعباء على المعلمين.
أما الثالث فهو تحويل المدارس الأزهرية إلى “مجتمعات تعلم مهنية”، بحيث يصبح المعهد مؤسسة تعليمية مهنية يعتمد فيها الطالب على تعلم 70% من المنهج داخل الفصول والبقية عبر المنصات الإلكترونية.
وفي الوقت الذي تكشف فيه الوقائع عن معاناة المعاهد الأزهرية على مستوى كافة المحافظات، خاصة في ظل نقص المعلمين المتفاقم مع إحالة العديد من المعلمين إلى المعاش، يُلاحظ أن الأزهر لم يكن قادرًا على معالجة هذا التدهور في الموارد البشرية.
فمع توقف التعيينات لسنوات طويلة، لجأت العديد من المناطق الأزهرية إلى حلول غير مهنية وغير مجدية لتغطية العجز، مثل الاستعانة بالفنيين في الإدارات المختلفة لتولي مهام التدريس، وكذلك تكليف الموجهين بالتدريس في التخصصات التي يعاني فيها الأزهر من نقص شديد في المعلمين.
وقد أجبر هذا الوضع بعض المعاهد على العمل بنظام “الفترتين”، حيث يقوم بعض المعاهد الثانوية بتدريس طلاب المرحلة الابتدائية في الفترات المسائية بعد انتهاء الحصص الأصلية للمرحلة الثانوية.
لكنّ هذه الحلول الارتجالية تزداد فشلًا مع مرور الوقت. في ظل عدم وجود رؤية استراتيجية واضحة من الحكومة المصرية ولا من هيئة الأزهر لحل تلك الأزمات بشكل مستدام، تبدو الصورة قاتمة للغاية. فالأزهر، الذي كان منارة للعلم في الماضي، أصبح اليوم في مواجهة تحديات كبيرة تهدد مستقبل الأجيال القادمة.
أزمة التعليم الأزهرى في مصر ليست أزمة بسيطة، بل هي أزمة استراتيجية تعكس الفساد المستشري في إدارة الدولة وغياب الكفاءة الإدارية.
بينما يتم إهدار المال العام على مشاريع لا تعود على المواطن بأي نفع، يبقى التعليم الأزهرى ضحية لهذا التقاعس والفساد. لقد أفرزت هذه السياسات الحكومية فشلًا ذريعًا ليس فقط على مستوى المعاهد الأزهرية، بل على مستوى التعليم في مصر بشكل عام.