فضيحة الإهمال الحكومي: مسارح مصر العامة تعاني من التهميش والفساد
كشفت الإحصاءات الرسمية عن تراجع مذهل في أعداد المقاعد في المسارح العامة على مستوى البلاد، مما يدل على حالة من التدهور الثقافي الذي تتغاضى عنه السلطات بشكل صارخ في الوقت الذي يتزايد فيه عدد السكان وتتزايد الحاجة إلى مساحات ثقافية وترفيهية.
بلغت السعة الإجمالية للمقاعد في المسارح العامة في مصر في عام 2021 ما يعادل 20.4 ألف مقعد فقط، وهو ما يعني توفير 20 مقعدًا لكل 100 ألف نسمة.
هذا الرقم الهزيل، الذي يفضح التدهور الحاد في البنية التحتية الثقافية للبلاد، يكشف عن فشل الحكومات المتعاقبة في تحسين الوضع الثقافي والترفيهي للمصريين، وتركهم فريسة للتجاهل والإهمال المنهجي من قبل الدولة.
هذه الأرقام، التي توضح انحدارًا مخيفًا في مستويات الخدمات الثقافية العامة، تعكس أيضًا سياسة حكومية تهدف إلى تقليص الفضاءات الثقافية العامة والتضييق على الأنشطة التي تساهم في بناء الوعي وتقديم الفرص للتعبير الفني والثقافي، مما يجعل من الواضح أن الفساد المستشري والإدارة غير الكفؤة لعبا دورًا حاسمًا في تراجع تلك المؤسسات.
وقد أصبح من الجلي أن هناك تواطؤًا متعمدًا من الحكومة في تجاهل القطاع الثقافي، وعدم ضخ الاستثمارات اللازمة لإحياء هذه المساحات، وهو ما يؤدي إلى تفاقم الوضع الحالي بدلًا من معالجته.
ورغم أن مصر تملك تراثًا ثقافيًا عظيمًا وتاريخًا طويلًا في الفن والمسرح، إلا أن الحكومة فشلت في استثمار هذه الموارد لدعم البنية الثقافية الحالية، حيث أن عدد المقاعد المتاحة في المسارح العامة يعتبر ضئيلًا بشكل كارثي مقارنة بحجم السكان المتزايد.
وفي حين أن العديد من دول العالم تسعى إلى تحسين ودعم القطاع الثقافي باعتباره جزءًا أساسيًا من التنمية البشرية والاجتماعية، فإن الحكومة المصرية قد اتبعت سياسات عكسية تمامًا، حيث باتت تهمل هذا القطاع الحيوي دون أدنى مراعاة للأجيال القادمة واحتياجاتها الثقافية.
من الجدير بالذكر أن الوضع لا يتوقف عند هذا الحد، فالمسارح العامة التي تتواجد في مصر تعاني من نقص في التجهيزات والتقنيات الحديثة التي تساهم في جذب الجمهور وإثراء تجربة المشاهدة، بالإضافة إلى تدهور حالة المباني وعدم تحديثها بشكل يتناسب مع المعايير العالمية.
فالحكومة التي لا تتوانى عن إنفاق المليارات على مشروعات لا تمس احتياجات الشعب بشكل مباشر، تتجاهل بشكل متعمد ضخ الاستثمارات في قطاع المسرح والفنون، الأمر الذي يزيد من تراجع تأثير هذه الفضاءات ويعزز من نفور الجمهور منها.
ومع ذلك، فإن الحكومة تستمر في ترويج سياساتها الاقتصادية الفاشلة باعتبارها “خطط إصلاحية”، بينما الواقع يكشف أن الإنفاق على المشاريع الثقافية يكاد يكون معدومًا.
لقد تحولت المسارح العامة إلى رموز للعجز الحكومي والفساد المالي والإداري الذي يعم البلاد. ولعل ما يزيد من حدة هذه الكارثة أن الحكومة لم تعلن عن أي خطة واضحة أو جادة لتطوير البنية التحتية الثقافية، في ظل تجاهل تام لمطالبات المثقفين والفنانين الذين نادوا مرارًا بضرورة إنقاذ القطاع الثقافي في البلاد.
والأمر لا يتوقف عند نقص المقاعد فقط، بل يمتد إلى سوء توزيع هذه المسارح، حيث تعاني المحافظات النائية من غياب شبه تام للمسارح العامة، ما يجعل الفرص الثقافية حكراً على سكان العاصمة والمدن الكبرى فقط، ويزيد من الفجوة الثقافية بين الطبقات الاجتماعية في مصر.
هذه السياسات التي تكرس المركزية الشديدة، تحرم ملايين المصريين من فرص التعليم الفني والثقافي، وتدفع الأجيال الشابة نحو الانغلاق والابتعاد عن الفنون، مما يساهم في خلق مجتمع يعاني من الفقر الثقافي والإبداعي.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه معدلات النمو السكاني في مصر بشكل غير مسبوق، تستمر الحكومة في تجاهل الحاجة الملحة لإنشاء المزيد من المسارح العامة أو على الأقل تطوير تلك القائمة.
إن عدم وجود تخطيط حكومي فعال لتوسيع البنية التحتية الثقافية في البلاد يكشف عن مدى العشوائية التي تدير بها السلطات الشؤون الثقافية، فضلًا عن انعدام أي رؤية مستقبلية تضع الثقافة في صدارة الاهتمامات الوطنية.
المفارقة الكبرى تكمن في أن مصر التي طالما كانت منارة للفنون في المنطقة، أصبحت اليوم على حافة الانهيار الثقافي، بفضل سياسات حكومية تفتقر إلى الوعي والإرادة السياسية.
ولا يمكن إنكار أن الفساد الذي يسود كافة القطاعات في مصر قد امتد أيضًا ليشمل القطاع الثقافي، حيث أن المخصصات المالية التي يفترض أن توجه لتطوير المسارح العامة عادة ما تنتهي في جيوب الفاسدين، تاركة الشعب يواجه مزيدًا من التدهور والتراجع.
ويبقى السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: إلى متى ستستمر الحكومة في هذا الإهمال المتعمد؟ إلى متى سيظل الفساد ينخر في جسد الثقافة المصرية دون محاسبة؟
إن الأرقام التي تكشف عن الواقع المؤلم للمسارح العامة في مصر ليست مجرد أرقام جافة، بل هي دليل حي على تدهور شامل يعاني منه الشعب المصري على كافة الأصعدة، سواء في التعليم أو الصحة أو حتى في الوصول إلى الفن والثقافة، وما لم يتم اتخاذ خطوات عاجلة وجادة لإصلاح هذا الوضع، فإن مصر ستكون على موعد مع مستقبل مظلم، حيث يختفي الفن وتنهار الثقافة، ويصبح الشعب أسيرًا للتجاهل والإهمال