يدهشني لدرجة العجب أن التنوع الذي يتمتع به الوطن -السودان- يمثل ثروة عزيزة وغالية وثرية لتشكيل لوحة رائعة من التآلف والآخاء والمحبة والتضامن ويشكل قاطرة خير لكل أرجاء الوطن الفسيح الذي كان يمثل أرض المليون ميلاً مربعاً قبل انفصال جنوب السودان الحبيب … عوضاً عن استثمار هذا التنوع لإثراء الواقع تحول تحت سلطة الأنظمة العسكرية والشمولية إلى “خميرة عكننة” اضاعت الألفة وتحولت إلى إضافة سالبه على صعيد الوحدة الوطنية كما ساهمت في تمزيق النسيج الإجتماعي والتعايش السلمي بين القبائل المتعددة والمتشعبة والأعراق المتباينة.
خلال الإعتصام المشهود أمام مبنى القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة تحول ذلك التنوع إلى لوحة زاهية من الآخاء والتلاحم دون تمييز بين سوداني وآخر مهما تباينت السحنات واللهجات، وبدأ التوهج في أعلى درجات الآخاء والتلاحم والألفة “عندك خت ما عندك شيل” … تلك الصورة الزاهية لم تعجب قوى الظلام الذين تآمروا على شباب ثورة ديسمبر المجيدة ووقعت المذبحة التي تورط فيها الجميع ليعلن على الملأ وبلا حياء أنه قد “حدث ما حدث” وكانت تلك الصرخة اليائسة التي سحبت الوطن نحو بالوعة الفوضى والعبث واللامسؤولية وتداعت الأحداث بصورة متسارعة إلى أن قادتنا إلى هذه الحرب العبثية اللعينة التي قادت البلاد نحو الهلاك وأحرقت الأخضر واليابس وتهدد بإشعال حرب أهلية قد تقود -لا سمح الله- إلى تشظي السودان وتقسيمه إلى دويلات متناحرة نتيجة لقصور نظر قادته وتكالب المؤامرات الإقليمية والدولية التي حولت ما يجري في السودان إلى “قضية منسية” فيما تسيل دماء الأبرياء في الجزيرة وفي أرجاء دارفور ومناطق عديدة اخرى.
إن كان “سؤال الهوية” يؤرق السودانيين -عرب أم أفارقة- فإن ملحمة الإعتصام أكدت زيف هذا الوهم فالسودان بلد عربي وأفريقي في ذات الوقت، بل أن عدداً من القيادات الفكرية والنخب الثقافية -عربياً وإقليمياً- كانت ترى في السودان ميزة ثرية أن يكون جسراً بين العالمين العربي والأفريقي، ولكن هذه الميزة لم تستثمر على أفضل وجه، بل استثمرت عبر “البعثات التبشيرية” إلى ماكينة لتوليد الكراهية واحتقار الآخر وميلاد عصر جديد -عبر منظور ضيق- إلى حالة من العنصرية بين المكونين العربي والأفريقي حتى وصل بنا الحال لما نحن عليه من احتراب وصراع واقتتال ممتد إلى جميع أطراف الوطن وهو ما هيأ التربة لترجمة خريطة “عبدالرحيم حمدي الإسلامية” التي حصرت السودان عام 2005 في “دنقلا وسنار وكردفان” مستبعدة دارفور والمنطقتين “جنوب كردفان والنيل الأزرق”.
سبق أن أشرت في مقال نشر في ذات هذه المساحة بتاريخ 27/12/2020 أن هذا المخطط يعود بنا في الذاكرة إلى المخطط الذي وضعه “برنارد لويس” لتفتيت العالمين العربي والإسلامي وهو مخطط صاغته وخططت له الصهيونية والصليبية العالمية، وما انشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العام 1948 إلا بداية لهذا المخطط الشيطاني وهو ما عبر عنه الإرهابي بنيامين نتنياهو قبل أسابيع عن إعادة “تشكيل الشرق الأوسط الجديد” وهو يقود حربه الوجودية الطاحنة ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.
السودان “أرض الطيبين” لا يجب أن يكون حلقة في هذا المسلسل الجهنمي الذي يقود إلى التفتيت والتجزئة وتحويل العالم العربي والإسلامي إلى فسيفساء ورقية تكون اسرائيل فيها السيد المطاع برعاية أمريكية خالصة.
إن شعارات ثورة ديسمبر المجيدة لن تسقط كما أن شباب السودان الناهض والمناضل لن يقبل هذا الهوان وسيعمل جاهداً للحفاظ على وحدة بلاده بعد أن يكنس القيادات المتكلسة ويتولى الشباب زمام الأمور في “أرض الطيبين” ليشكلوا حائط صد في وجه هذه المؤامرات التي بدأت عام 2011 بإنفصال جنوب السودان ليأتي الدور على دارفور في إطار هذا المخطط الصهيوني الصليبي المدعوم من الدول الغربية ودولة المحور الولايات المتحدة الأمريكية.
برنارد لويس المولود في لندن عام 1916 وهو مستشرق بريطاني الأصل يهودي الديانة صهيوني الإنتماء أمريكي الجنسية لم يكتفي بالتعبير صراحة عن كراهيته للإسلام والمسلمين بل ألف نحو 20 كتاباً عن الشرق الأوسط وأرفق مخططه الشيطاني بصور وخرائط تفصيلية لتقسيم العالمين العربي والإسلامي من باكستان إلى المغرب العربي.
هل تكفي الحيطة والحذر فقط في هذا المنعطف الخطير الذي تنزلق إليه الأحداث أم أن المطلوب اكثر من ذلك بأن يتحقق النهوض القومي وتتحقق الوحدة العربية والإسلامية لمواجهة هذه المخاطر التي تترجم على أرض الواقع فيما نعايشه ونشاهده من ضعف وهوان سيقود بالضرورة إلى أن يستأسد الغرب والصهيونية على كل بلادنا العربية والإسلامية.
“أرض الطيبين” اصبحت في “مواجهة المدفع” وحالة التمزق والإحتراب لن تشكل طوق نجاة في مواجهة هذا الطوفان الإستعماري الذي سيضع أقدامه على رقابنا … ويبقى على شباب الأمة العربية والإسلامية أن يستيقظوا ويتوحدوا بعد أن بات حاضرهم ومستقبلهم في خطر محدق ولن يكون لنا أمل في مؤسسات العمل العربي والإسلامي المشترك ولا الأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة.