لماذا أنا هنا الآن؟
في هذا المدينة الصغيرة تعانق الجبال الغيوم وتروي ، الانفاق ، والأنهار الصغيرة ،حكايات الدم والألم والمقاومة.
لم تكن الرحلة فقط من أجل المشاركة في المؤتمر السنوي للمجلس العربي، الذي ضاق به وطننا العربي الواسع حتى وجد ملاذه الوحيد في حضن هذه المدينة .
مؤتمرنا هذا العام
صاغ عهد ديمقراطي عربي، كرمز موحي بالأمل الذي نحمله في زمن الألم .ولا عهد..
ربما كان وراء تلك الخطوات التي حملتني لأرض مدينة سراييفو بالبوسنة، هدف آخر، وهو رغبة ملحة في العودة لغزه التي زرتها مرة واحدة في حياتي مع السيد عمرو موسي عام ١٩٩٥ وقت افتتاح البرلمان الفلسطيني
زيارتي لغزه القديمة (سراييفو )هي لفهم جرح البوسنة الذي لم يلتئم بعد رغم ذكري مرور( ٣٠عاما) .
إن ما جرى هنا منذ ثلاثة عقود من حرب إبادة ودمار، هو صورة كربونية مكررة لما نشاهده يومياً في غزة .
فكيف نفهم غزة دون أن نغوص بالفهم -أولاً- في دلالات ما حدث في البوسنة؟
كيف نستوعب فظاعة المشهد في بيروت دون أن نتذكر سربرنيتسا وسراييفو؟
قال لي -شريكنا البوسني- الدكتور /احمد وهو أكاديمي بوسني وخبير سياسي:-
”افهموا البوسنة أولًا، حتى تفهموا غزة، وحتى لا تتعجبوا من الصمت العالمي أمام هذه الجرائم.”
نعم..في حرب البوسنة:
ثلاثمائة ألف مسلم دفعوا حياتهم ثمناً للحقد الأعمى، وشهوه الانتقام لمجرد الاعلان عن رغبتهم في استقلال دولتهم
ستين ألف امرأة وطفلة اغتصبت أحلامهنّ وأجسادهن في ظلال الموت والوحشية. والصمت.
أكثر من مليون ونصف هجّروا من أرضهم، أُخرجوا من منازلهم، ليصبحوا نازحين بلا وطن. تُرى، هل نسيناهم؟
وهم في شوارع القاهرة والإسكندرية وباقي العواصم العربية يبحثون عن مأوي ؟ومساعدة..
أم أن ذاكرتنا الإنسانية باتت مثقلة بالحروب والندوب،لدرجة أننا لا نتذكر سوى القليل من أحدثها؟
هل نتذكر ما قالته المراسلة الشهيرة كريستيانا أمانبور عن البوسنة:
“كانت حربًا، قتلٌ وحصارٌ وتجويعٌ للمسلمين، وأوروبا رفضت التدخل. بدعوي إنها حرب أهلية. لكن الحقيقة ان هذه المزاعم كانت خرافة يرددونها كي لا يتحركوا.”
وها هو التاريخ يعيد نفسه في فلسطين ولبنان؛ الدماء التي تسيل تحت الحصار والجوع تُعيد صياغة مشهد ظلم لا تعرفه إلا القلوب التي تذوقت الحزن مراراً.
المشهد يتكرر
مدن تنهار،
ومساجد تهدم..
لمن لم يعيش هذه المرحلة أو سقطت من ذاكرته هذه نذكرهم
في البوسنة:
اربعة أعوام من القتل والتدمير، ثمانمائة مسجد هدمها الصرب في البوسنة، بعضها كان شاهدًا على مئات السنين من الحضارة.
لم تسلم مكتبة سراييفو التاريخية، تلك التي احترقت تحت نيران الكراهية.
وكما احترقت سراييفو، حرقت غزه و بيروت بعمد دُمرت كل ملامحها تحت القصف الوحشي، في مشهد مكرر لحرق الحضارة ،وقتل الانسان ووأد الثقافة .
من -غزه القديمة- (البوسنة) اقول لكم:-
المجازر لا تعرف الحدود
ففي غوراجدة وسربرنيتسا وزيبا، أقامت الأمم المتحدة حواجز زعمت أنها لحماية المسلمين، لكنها لم تفعل شيئًا سوى تسليمهم للموت. وكذلك في غزه وخان يونس ورفح لم يسلّم احد من مقصلة
كما كان الحال في السابق بالبوسنة هو الحال الان في غزة، حيث عجز العالم عن إيقاف شلال الدم، وكما في لبنان، حيث تُركت القرى الجنوبية تحت وطأة العدوان، بلا حماية، و بلا رحمة.وامتد الأمر لبيروت ولكلّ مكان في لبنان
العدالة الدولية في البوسنة وغزه ولبنان لم تكن سوى ظل قاتم للظلم قائم ودائم .
بين آلام الأمس
واليوم:
جسر بين البلقان وفلسطين ولبنان
قصص المخيمات، والمجازر.
وضع الصرب آلاف المسلمين في معسكرات اعتقال، جعلوهم هياكل عظمية تمشي على الأرض. ▪️وفي غزة، يموت الأطفال في أحضان أمهاتهم جوعًا وقصفًا، ▪️وفي لبنان، يحاول الشعب أن يفلت من الغدر، الصهيوني لكنه قد يقع في فخ حرب أهليه جديدة .
في معسكرات البوسنة، كانت النساء يُغتصبن، لتُجبر على الإنجاب لأطفال صربيين في محاولة لتغيير هوية الأرض.
▪️وفي فلسطين، يُمنع الأطفال من الحياة، من التعليم، والطعام ،والعلاج يمنعون من الأمل.
إن الجرائم تتشابه، لكن من يصغي لصوت التاريخ؟
ومن يتعلم من الماضي الأسود؟
من سربرنيتسا إلى غزة: ذاكرة الدماء
حصار سربرنيتسا لم ينسه التاريخ، كما لم ينس المجازر اليومية في غزة. حاصر الصرب المدينة لمدة سنتين، استنزفوها، ثم ذبحوا رجالها وأطفالها بلا رحمة. ذاكرة الدم لا تغفل، ولا التاريخ يغفر.
وكما فعل الصرب في البوسنة، نجد اليوم مشاهد القتل والذبح تتكرر في كل بقعة من ، من فلسطين إلى لبنان إلى سوريا. هي ذات اليد الغادرة التي لا تميز بين دين أو جنس، القتل هو القتل، والدماء هي الدماء.
العدالة المفقودة: الصمت الدولي
بعد ثلاثين عامًا من مذبحة البوسنة، ما زال العالم عاجزًا عن تعلم الدرس.
كان الصرب يختارون المثقفين، علماء الدين، رجال الأعمال لذبحهم أولًا. اليوم، في غزة ولبنان، يتم استهداف العقول، يتم قصف المدارس والمستشفيات، يتم سحق كل من يحمل الأمل في وجه الظلم.
قصص البوسنة تُروى لتوقظ الضمائر
هذه الحكايات ليست لتسلية الأطفال قبل النوم، بل هي جرس إنذار يقرع في آذان الكبار، لعلهم يستيقظون.
في البوسنة، بيروت، وغزة، كتب التاريخ بدماء الأبرياء، لكن ما زال البعض يتغافل عن قراءة تلك الصفحات الملطخة بالدم.
لن ننسى البلقان، لن ننسى فلسطين، لن ننسى لبنان.
التاريخ شاهد، لكن هل نرى؟ فأمام كل هذه المشاهد الدموية، نرى العالم يقف متفرجًا، تارة يصمت ،وتارة يستنكر، لكن دون أن يتحرك. وكأن العدالة أصبحت رهنًا للسياسة، والإنسانية خاضعة لحسابات المصالح.
لن يغفر التاريخ. فمن يغفل عنه اليوم، سيحاكم غدًا .