الصداقة، تلك الكلمة التي يظنها البعض بسيطة، لكنها في الحقيقة أثقل من الجبال. هذا صديقي، أعرفه منذ خمسين شدة، وعشرين أزمة.
لم تكن تلك السنوات مجرد لحظات عابرة أو أيام تمر بهدوء، بل كانت ساحة لمعركة ضارية مع الحياة. خمسون شدة … لا تتخيل حجم الألم الذي خلفته في قلبي وقلوبنا، وكيف تحولت الصداقة إلى قارب نجاة وسط بحر لا يرحم.
هل تعتقد أن الصداقة تقاس بالضحكات المشتركة أو بالنزهات المبهجة؟ كم أنت مخطئ. الصداقة تقاس بالدموع المختبئة خلف الابتسامات الزائفة، وبالآلام التي تمتصها الأكتاف المرهقة من حمل الأزمات.
صديقي، أعرفه منذ خمسين شدة وعشرين أزمة، وليس في هذا شيء من المبالغة. لأن الصداقة الحقيقية تولد من رحم الألم وتُصهر في نار الشدة.
كيف لك أن تفهم؟ كيف يمكن لشخص لم يعرف سوى اللحظات المشرقة أن يدرك عمق تلك العلاقة التي بُنيت على ركام الأزمات؟
كل شدة كانت تُسقط قناعًا من وجوه الآخرين، لكن هذا الصديق بقي واقفًا، ثابتًا، كأن العواصف تتجاهله. كل أزمة كانت تغلق الأبواب في وجهي، لكن بابه لم يغلق أبدًا.
الحياة كانت تضربنا بشراسة، ولم تكن ترحم. هناك لحظات تشعر فيها أن الكون كله يتآمر عليك، أن كل ما بنيته ينهار أمام عينيك دون أن تتمكن من فعل شيء.
في تلك اللحظات، لا تبحث عن الوجوه المألوفة، فمعظمها سيختفي في غياهب النسيان. لكن ذلك الشخص الوحيد، الذي لم يتركك يومًا، هو الصديق الذي تعرفه منذ خمسين شدة.
إنه الذي كان حاضرًا عندما غابت كل الوجوه. هو الذي رأى الجانب المظلم منك، ولم يهرب. كيف لا أراه كنزًا وقد كان شعاع النور الوحيد في أحلك الأوقات؟
ليست الصداقة بالأيام أو السنوات التي تمر بهدوء؛ بل هي تلك اللحظات التي كنت فيها على وشك الانهيار، ووجدت من يمسك بك قبل السقوط.
هي تلك اللحظات التي شعرت فيها بأن العالم كله يخذلك، لكنك وجدت من يقول لك “أنا هنا.” كم مرة شعرت بالخذلان؟ كم مرة بكيت في الظلام وأنت تعرف أن لا أحد يفهم؟
لكن هناك من كان يفهم. من كان حاضرًا دون أن تطلب حضوره، من كان يقف بجانبك رغم أنه لم يكن ملزمًا بذلك. خمسون شدة وعشرين أزمة، وكل لحظة منها كانت دليلًا على أن هذه العلاقة ليست عابرة.
هناك في أعماق الأزمات، تظهر الوجوه الحقيقية. وفي كل مرة كنت أتوقع السقوط، كنت أجد هذا الصديق واقفًا بجانبي. ليس لأنه أقوى مني، بل لأنه يعرف ماذا يعني الألم.
يعرف كيف تعصف بك الحياة دون رحمة، وكيف تغلق الأبواب في وجهك دون سابق إنذار. لكن رغم كل ذلك، بقي معنا، لا لشيء سوى أن الشدة جمعت بيننا برباط لا يُكسر.
كم من مرة شعرت أنني تائه، بلا اتجاه، وأن العالم كله يتحول إلى رماد؟ وكم من مرة وجدت في هذا الصديق ملاذًا، وملجأ أعود إليه كلما ضاقت بي الدنيا؟ كان حضورًا صامتًا في أوقات لا يجرؤ فيها الآخرون على الاقتراب.
لم يكن يبحث عن حلول، ولم يكن يعطيني وعودًا كاذبة بأن الأمور ستتحسن. كان فقط هناك، بكل ثقله، وكل وجوده. هذا هو ما يجعلني أتمسك به، لأنه الشخص الذي لم يتركني عندما تركني الجميع.
الصداقة، إذًا، ليست مجرد كلمة نتداولها في الأحاديث العابرة. هي امتحان قاسٍ، امتحان يفرز الغث من السمين. إنها نهر عميق، لا يفهم عمقه إلا من غاص فيه.
وها أنا اليوم، أكتب عن صديقي الذي لا أعرفه منذ مجرد سنوات، بل أعرفه منذ خمسين شدة. نعم، خمسون شدة تركت آثارها على قلبي وروحي، لكنها أيضًا أكدت لي أن الصداقة الحقيقية لا تهتز ولا تنكسر.
الحياة علمتني درسًا مريرًا: لا تثق بالأوقات السعيدة، فهي زائلة. لكن في كل شدة، هناك شخص واحد يبقى معك، يقاسمك آلامك وأوجاعك، دون أن يطلب منك شيئًا. هذا هو الصديق. هذا هو الإنسان الذي تستند إليه عندما تتخلى عنك الأرض والسماء.
نعم، صديقي أعرفه منذ خمسين شدة وعشرين أزمة، وهذا هو المقياس الحقيقي للصداقة.