مقالات ورأى

معن بشور يكتب: عام على “طوفان الأقصى” جدلية الألم والأمل


لم أكن أظن للحظة أن مقولة “جدلية الألم والأمل” التي أطلقتها قبل سنوات لوصف حال أمّتنا العربية والإسلامية ستصبح واقعاً نعيشه بكل ما فيه من معانٍ ودلالات على مدى عام كامل منذ عملية “طوفان الأقصى” التاريخية.
فالألم المكثّف الذي عانته فلسطين ولبنان ومعهما كل العرب والمسلمين وأحرار العالم بفضل مجازر العدو وفظائعه التي لم تتوقف يوماً واحداً، والتي حصدت عشرات الألاف من الشهداء الفلسطينيين، والألاف من اللبنانيين، بات يحاصر أمّتنا من كل حدب وصوب، وكاد ينتصر علينا لولا كوة الأمل التي فتحتها أمامنا يطولات المجاهدين والمقاومين والصمود الأسطوري لشعبنا في فلسطين ولبنان وسائر ساحات المقاومة، ولولا شعورنا أن العدو رغم تفوقه العسكري والتكنولوجي ووحشيته غير المسبوقة لم يستطع أن يحقق هدفاً واحداً من أهدافه سوى تلك الإبادة الجماعية التي يجيدها، وقد تعلمها من أساتذته النازيين الذين ادعى أنهم أبادوه، ليتبين فيما بعد أن قادته اليوم هم تلامذة لهم بل تفوقوا عليهم في القتل والإبادة والتطهير العرقي.
ففي ظل جدلية الألم والأمل يستطيع كل منا أن يقرأ مسار هذا العام الذي مرّ علينا منذ تلك العملية المباركة صبيحة السابع من أكتوبر في غلاف غزّة، والتي اعتبرها كثير من المحللين العسكريين والسياسيين أنها عملية نوعية نجح أبطال كتائب القسام في حركة حماس إنجازها فأعادوا لقضية فلسطين وهجها وكشفوا أن هذا الكيان الغاصب “أوهن من بيت العنكبوت” كما كان يرى منذ سنوات سماحة القائد الشهيد الكبير، قائد المقاومة اللبنانية سماحة السيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه).
ومن هنا نستطيع القول أن تأثير عملية “طوفان الأقصى” لم يكن محصوراً بفلسطين وحدها، ولا بالأمّة العربية والإسلامية فقط، بل كان لتأثيرها تداعيات على مستوى العالم حيث نجحت تلك العملية بما كشفته من وهن العدو ووحشيته كم هي معركة الحرية لفلسطين متصلة بمعركة الحرية بالعالم كله، وحيث لم يكشف عام الصراع الدموي مع العدو المستعمر الصهيوني، حقيقة هذا الكيان ووحشيته فقط، بل كشف أيضاً وحشية الأنظمة القائمة في دول الغرب وفي كقدمها الولايات المتحدة الأمريكية الحاضنة بكل وقاحة لهذا المشروع الصهيوني النازي، بل وافسحت المجال لظهور نقمة شعوبها التي كانت محجوزة في الصدور إلى العلن، وبات العالم يلاحظ أن في هذه الأنظمة الدولية كم كبير من الإزدواجية في المواقف والسلوك، جرى تمويهها بادعاءات ملأت الكون بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فكما حرّرت ثورة الجزائر فرنسا من واقعها الاستعماري لسنوات، قبل أن يستعيد العنصريون الفرنسيون زمام المبادرة ويلتحقون لالامبريالية العالمية، نستطيع أن نقول اليوم أن المقاومة الفلسطينية بعمقها العربي والإسلامي والتحرري في العالم، قادرة أيضاً أن تحرّر العالم كله، لاسيّما تلك الدول التي يتحكم بها أصدقاء تل أبيب من حكامها الاستعماريين والعنصريين والفاشيين، ولو ارتدوا لباس الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وإذا أضفنا إلى هذا المشهد الشعبي الأمريكي المعترض على انحياز حكومته الكبير لصالح العدوان الصهيوني، حجم الأزمة البنيوية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يفيض المحللون في الحديث بحق عن جوانبها المتعدّدة، نستطيع القول أن قدرات واشنطن ومعها عواصم الغرب الأطلسي، على التأثير في سياسات العالم باتت أقل بكثير مما كانت عليه يوم احتلت جيوشها أرض العراق الطاهرة، ويوم حاولت أجهزتها تدمير سورية وتمزيق ليبيا وتدمير اليمن، لقد لخّص صحفي أمريكي هذه الحقائق في كلمة وجهها إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن في ندوة متلفزة كان يتحدث عن أمريكا وفي دورها في إعادة تنظيم العالم، فقال الصحفي الشاب: “إذا لم تنجحوا في تنظيم أوضاع بلادنا وإخراجها من أوضاعها المتردية، كيف ستنجحون في إعادة تنظيم العالم”.
ولعل ما يجري من تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحاكم الدولية هو خير دليل على تراجع الهيمنة الأمريكية التي باتت في مرات كثيرة تراها نفسها وحيدة ومعزولة عن بقية العالم
كما أسهمت معركة “طوفان الأقصى” في إماطة اللثام عن الطبيعة العنصرية الإقصائية الإرهابية للنظام العالمي القائم منذ بداية هذا القرن، والذي كانت حربه في العراق عام 2003، أول اصطداماته في هذا القرن مع أمّتنا في معركة الخير والحرية والإنسانية في هذا العالم، فأن هذه المعركة التاريخية المستمرة منذ عام، معركة “طوفان الأقصى” هي معركة كشفت أيضاً حقائق هامة في حياتنا العربية والإسلامية.
فهي كشفت عمق الارتباط بين النظام الرسمي العربي، بمعظم أركانه، بالنظام الاستعماري الدولي، والتزامه بكل ما يقرره هذا النظام الموالي للصهيونية من إملاءات على حساب حقوق أمّتهم ومصالحها وحياة أبنائها وكرامتهم.
إذ كيف نفسّر أن يمر عام كامل على حرب الإبادة الصهيو – استعمارية في فلسطين، والآن في لبنان، ولا نرى موقفاً رسمياً جدياً واحداً من معظم الأنظمة العربية يندّد بهذا العدوان، ويتخذ إجراءات عقابية بحق مجرمي الحرب في تل أبيب، ويسقط اتفاقات التطبيع معهم، ويستخدم الأسلحة المتاحة للضغط على داعميهم وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، بما فيها سلاح النفط والأرصدة المصرفية.
لقد كشفت ملحمة “طوفان الأقصى” بوضوح عمق الهوة بين مشاعر شعوب المنطقة وسياسات العديد من حكام المنطقة الذين ما زالوا يتصرفون وفق النظرية التي أدّت إلى تنازلات رسمية عربية عديدة وهي أن “99 % من أوراق اللعبة بيد أمريكا”، ودون أن يدرون أن واشنطن قد خسرت منذ حرنها على العراق ثم سورية وليبيا واليمن، ناهيك عن لبنان وفلسطين، الكثير من هذه الأوراق، ومع ذلك ما زال بعض حكامنا العرب أسرى تلك النظرية التي تمّ الترويج لها لتبرير المصالحة مع العدو الصهيوني وعقد الاتفاقات وإقامة العلاقات معه.
إما الجانب الآخر الذي كشفت عنه هذه المعركة التاريخية هو قدرة الأمّة على المقاومة على نحو أذهل الصديق قبل العدو، فما شهدته غزّة ومعها الضفة وعموم فلسطين والمقاومة في لبنان من بطولات في المقاومة وصمود أسطوري بوجه حرب إبادة أقرّت محكمة العدل الدولية نفسها بوجودها، أكّد أن في أمّتنا طاقات هائلة في القدرة على مقاومة أعدائها الطامعين في الهيمنة عليها.
لقد مثّلت ثورة الجزائر في أواسط خمسينيات القرن الماضي هذه الحالة النضالية الهائلة حتى أطلق عليها أنها “مفاجأة العروبة لنفسها”، كما جسّدت ثورات تحررية عدّة في أقطار أخرى هذه المقولة التي تؤكّد أن في أمّتنا قدرات على المقاومة لا تستطيع أي جهة مهما بلغت قوتها أن تدمرها.
وبالإضافة إلى بطولات لم تمكّن العدو من تحقيق أي هدف من أهدافه المعلنة في حرب غزّة، كالتهجير والاستسلام وإطلاق الأسرى الصهاينة وتصفية المقاومة الفلسطينية (لاسيّما حركة حماس)، فلقد ظهرت في لبنان أيضاً بطولات جعلت من هذا البلد الصغير مساحة وسكاناً أن يلتحم بأشقائه في فلسطين، وأن يفتح إلى جانب جبهتهم جبهة جديدة، وأن يثبت أن وحدة الأمّة العربية والإسلامية ليست شعاراً يرفع بالمناسبات، بل هو حقيقة معمّدة بدماء عشرات الالاف من الشهداء والقادة ودون أي تراجع أو ارتباك.
لقد شكّلت الإضافة اللبنانية لمعركة “طوفان الأقصى” معان عديدة ليس آخرها بروز جبهة مقاومة واسعة هي بداية منظومة عربية وإسلامية وعالمية مقاومة للاحتلال الصهيوني ومن ورائه.
كما أكّدت هذه الجبهة أنه يمكن للشعوب أن تعتمد على مقاومتها الذاتية إذا تخلفت الأنظمة عن القيام بواجبها في الدفاع عن سيادتها وكرامتها ومقدساتها.
وحين نتحدث عن جبهة المقاومة لا نقصد بالذات قوى المقاومة المنخرطة في المعركة فحسب، وهي فلسطين ولبنان وسورية والعراق واليمن والجمهورية الإسلامية الإيرانية فقطبل أيضاً تلك القوى الشعبية التي تتحرك في أقطارها، لاسيّما تلك التي اختارت حكوماتها مسار التطبيع، لتؤكّد أنه “إذا كان التطبيع خيار حكومات، فأن المقاومة خيار الشعوب”، وهو ما نراه اليوم في ميادين المغرب ومدنه، وساحات الأردن ووقفاته الشعبية، واعتصامات البحرين التي تشكّل تعبيراً عن موقف تلك الجزيرة الصغيرة في الخليج، والتي باتت كبيرة بمواقف طلائعها وشعبها.
أما بالنسبة لما يتساءل به كثيرون عن دور مصر في هذه المعركة، وخصوصاً نظراً لمكانة مصر وتراثها القومي، ودورها في مواجهة أعداء الأمّة، فأننا نعتبر أن شعب مصر العظيم الذي اسقط على مدار أربعين عاما التطبيع الشعبي مع العدو، يبدو هادئاً كالنيل لفترة طويلة، ثم ما يلبث أن ينفجر في لحظة الطوفان، وأنا من الذين يعتقدون أن طوفان النيل هذه المرّة سيكون خير رديف لطوفان الأقصى، تماماً كما كان أيام جمال عبد الناصر، وصلاح الدين الأيوبي، والعديد من قادة مصر الوطنيين، كما مع شهدائها كمحمد صلاح، وإدريس حلاوي، وأيمن حسن، وخالد عبد الناصر، ومحمود نور الدين، وأن القيود التي فرضت على مصر، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً سيتم تحطيمها في أي لحظة، وقد تكون معركة القاهرة مع تل أبيب حول معبر “فيلادلفيا” هي بداية هذا الانفجار.
إن استعراض المشهد العربي والإقليمي والدولي على مدى عام على ملحمة “طوفان الأقصى” يكشف لنا حجم الألم الذي أصاب أمّتنا، وهو ألم قديم متجذّر في أحوالنا وعلاقاتنا، لكنه أيضاً يكشف حجم الأمل الذي أيقظته فينا هذه الملحمة التاريخية، بعد أن كاد اليأس يطبق علينا، والإحباط يسيطر على رؤانا.
يكفي، كما قال كثيرون، أن ملحمة”طوفان الأقصى” قد أعادت الاعتبار للسردية الفلسطينية على حساب السردية الصهيونية، وهو أمر بالغ الأهمية لأن كل التحولات التاريخية تبدأ بسردية دينية أو فكرية أو حتى سياسية، وهذا ما يعزّز التفاؤل في أن داخل جدلية الألم والأمل، سردية تؤكّد أن الأمل سينتصر على الألم، كما العين على المخرز، بإذن الله، ولو بعد حين.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى