مقالات ورأى

المعتصم الكيلاني يكتب: اليوم العالمي للاعنف: تعزيز السلام في عالم مضطرب

يُحتفل باليوم العالمي للاعنف في 2 أكتوبر من كل عام، وهو تاريخ مولد المهاتما غاندي، أحد أبرز دعاة السلام في العالم ورمز النضال السلمي ضد الاستبداد والظلم. هذا اليوم، الذي أقرته الأمم المتحدة في عام 2007، يهدف إلى نشر رسالة اللاعنف كأداة فعالة لتحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي. يأتي هذا الاحتفال في وقت يشهد فيه العالم اضطرابات واسعة النطاق، سواء بسبب الصراعات المسلحة أو الأزمات السياسية والاقتصادية، مما يجعل رسالة اللاعنف أكثر أهمية من أي وقت مضى.

لماذا يحتفل العالم باللاعنف؟

اليوم العالمي للاعنف لا يقتصر على إحياء ذكرى غاندي، بل هو فرصة للتأمل في كيفية تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي من دون اللجوء إلى العنف. اللاعنف ليس فقط وسيلة لتحقيق السلام، بل هو فلسفة حياة تقوم على الاحترام المتبادل والعدالة. يعتقد غاندي أن اللاعنف هو “أعظم قوة متاحة للبشرية”، فهو يعزز الكرامة الإنسانية ويخلق بيئة تتيح الحوار والتفاهم بدلاً من الصراع والعداء.

في الوقت الراهن، يشهد العالم تفاقم العنف بجميع أشكاله، سواء في الحروب أو الإرهاب أو حتى في العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات. اللاعنف هنا يقدم بديلاً فاعلاً، حيث يمكن للمجتمعات أن تحل نزاعاتها من خلال الحوار والاحترام المتبادل بدلاً من القوة. هذا المفهوم يتجاوز السياسة ليشمل الحياة اليومية، حيث يمكن لللاعنف أن يكون نهجاً للتعامل مع التوترات الاجتماعية والصراعات الشخصية.

اللاعنف كأداة للتغيير السياسي والاجتماعي

في التاريخ الحديث، أظهر اللاعنف فعاليته كأداة للتغيير السياسي. من حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة بقيادة مارتن لوثر كينغ، إلى سقوط النظام العنصري في جنوب أفريقيا على يد نيلسون مانديلا، نجد أن الحركات السلمية لعبت دوراً رئيسياً في تحقيق التغيير. هذه الحركات أكدت أن العدالة والسلام لا يتحققان باستخدام القوة، بل من خلال النضال السلمي والمثابرة.

اللاعنف لا يعني الاستسلام أو القبول بالظلم، بل هو مقاومة فعّالة تسعى لتغيير الظروف القائمة من خلال الضغط السياسي والاجتماعي من دون اللجوء إلى العنف. الحركات السلمية مثل التي قادها غاندي ومانديلا أثبتت أن الجماهير يمكنها إسقاط الأنظمة الاستبدادية والظالمة، بشرط أن تتبع نهجًا منضبطًا يعتمد على التضامن والعمل الجماعي.

التحديات التي تواجه فلسفة اللاعنف اليوم

رغم النجاحات التاريخية التي حققتها الحركات السلمية، يواجه مبدأ اللاعنف تحديات كبيرة في العالم المعاصر. تفاقم النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط وأفريقيا وأماكن أخرى، إلى جانب انتشار الحركات الراديكالية، يشكل عائقًا أمام تعزيز هذا المبدأ. كما أن تصاعد الخطاب السياسي العدائي في بعض الدول الديمقراطية يهدد بنسف الأسس التي يقوم عليها التعايش السلمي.

علاوة على ذلك، ثمة تحديات اقتصادية واجتماعية تعزز اللجوء إلى العنف، مثل الفقر والتمييز العنصري والاجتماعي. في ظل هذه الأزمات، يبدو أن خيار العنف أحياناً هو الملاذ الأخير للعديد من الأفراد والجماعات. هنا يظهر دور الحكومات والمؤسسات الدولية في تعزيز سياسات تعالج جذور العنف، مثل تحسين الظروف الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

في سياق اليوم العالمي للاعنف، لا يمكن إغفال حقيقة أن الاحتلال يعتبر أحد أبرز أسباب استمرار العنف في العالم. الاحتلال العسكري والاستيطاني، كما في فلسطين وسوريا (الجولان)، يولد دوامة من الصراع المستمر ويؤجج التوترات الاجتماعية والسياسية. في فلسطين، الاحتلال الإسرائيلي وما يرافقه من انتهاكات حقوق الإنسان، مثل الاستيطان، الحصار، والاعتقالات الجماعية، يدفع العديد من الأفراد إلى مقاومة الاحتلال، بما في ذلك اللجوء إلى العنف. الوضع في سوريا، وتحديداً في هضبة الجولان المحتلة، ليس أقل تعقيداً، حيث يستمر النزاع على الأرض ويزيد من تعميق الأزمات الإقليمية.

إنهاء الاحتلال في هذه المناطق يُعد ضرورة لتحقيق السلام والاستقرار، حيث أن استمرار الاحتلال يعني استمرار الظلم والاضطهاد، وهو ما يولد ردود فعل عنيفة ويقوض فرص الحوار. الحلول السلمية المبنية على القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، مثل تلك التي تطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والسورية، هي السبيل الوحيد لتخفيف التوترات وتحقيق العدالة. في غياب هذه الحلول، سيظل العنف خياراً قائماً لدى المجتمعات التي تشعر بالإحباط واليأس من تحقيق حقوقها عبر الوسائل السلمية.

إنهاء سياسات القمع بوجه الثورات: مفتاح للسلام المستدام

إلى جانب إنهاء الاحتلال، يُعتبر إنهاء سياسات القمع التي تواجه بها الثورات والحركات الاحتجاجية عاملاً حيوياً للحد من العنف وتعزيز الاستقرار. في العديد من الدول، سواء في العالم العربي أو خارجه، تم التعامل مع المطالب الشعبية بالحرية والعدالة الاجتماعية من خلال القمع العنيف، مما أدى إلى تصاعد التوترات وتحول الثورات السلمية إلى نزاعات مسلحة. في سوريا، على سبيل المثال، تحولت الاحتجاجات السلمية ضد النظام إلى حرب أهلية دامية نتيجة القمع العنيف من قبل النظام الحاكم، ما أسفر عن دمار واسع النطاق وأزمة إنسانية مستمرة.

القمع يولد العنف؛ وعندما تُغلق الأبواب أمام الحوار السلمي ويواجه المتظاهرون بالقوة العسكرية، يصبح العنف في كثير من الأحيان الرد الوحيد المتاح أمام الشعوب التي تطالب بحقوقها. إنهاء سياسات القمع واستبدالها بسياسات تستجيب لمطالب الشعوب وتفتح الباب أمام الحوار والمصالحة الوطنية، يمكن أن يحقق استقرارًا دائمًا ويمنع تكرار دورات العنف. الاعتراف بحق الشعوب في التعبير عن نفسها بحرية دون الخوف من القمع هو خطوة أساسية نحو بناء مستقبل مستدام قائم على العدالة والسلام.

كيف يمكن تعزيز اللاعنف في العصر الحديث؟

لتعزيز مبدأ اللاعنف في العصر الحالي، يجب العمل على عدة مستويات. أولاً، لا بد من ترسيخ ثقافة الحوار والتسامح في المدارس والجامعات والمؤسسات الإعلامية. فالشباب بحاجة إلى تعلم كيفية حل النزاعات بطرق سلمية والتعبير عن آرائهم من دون اللجوء إلى العنف. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الحكومات والمجتمعات الدولية تعزيز سياسات التنمية والعدالة الاجتماعية، إذ أن غياب العدالة يخلق بيئة خصبة للعنف.

ثانيًا، على المجتمع الدولي أن يتبنى مواقف أكثر حزمًا ضد الانتهاكات الحقوقية التي تؤدي إلى العنف. التدخل الدولي في الأزمات يجب أن يركز على الحلول السلمية بدلاً من التصعيد العسكري، وهو ما يتطلب تنسيقًا دبلوماسيًا مكثفًا بين القوى الكبرى والمنظمات الدولية.

اليوم العالمي للاعنف يذكرنا بأن هناك بديلاً للقوة والصراع، وهو الحوار والتفاهم. اللاعنف ليس فقط خياراً أخلاقياً، بل هو أداة قوية لتحقيق العدالة والتغيير الاجتماعي. في عالم مضطرب يشهد تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية، يبقى مبدأ اللاعنف وسيلة لتحقيق السلام والتنمية المستدامة. علينا أن نعمل جميعاً، كأفراد وحكومات، لتعزيز هذه الفكرة وضمان أن تنتصر فلسفة اللاعنف في عالم يبدو أحياناً مأسوراً بالعنف.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى