مقالات ورأى

د.أيمن نور يكتب: أوراق من مذكراتي 6 سنوات من الغياب: حكاية صداقة عمرها 500 عام

ذاكرتي بعض حياتي
أدافع عنها .. وكأنها حريتي
ذكرياتي منها المجسم ومنها المسطح
فيها ما يجري، ويسيل الدم، وما يتسلل ببطء إلى العظم والنخاع تسجنني ذاكرتي في أشخاص عايشتهم وعايشوني، عرفتهم وعرفوني، أحببتهم وأحبوني في مقدمة هذه القائمة وفي صدارتها، صديقي جمال خاشقجي، الذي يبدأ اليوم عامه السابع في رحلة الغياب.

▪بدأت رحلتنا سويًا في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما جمعنا العمل في تأسيس جريدة “الحياة اللندنية”، ▪تطورت العلاقات الإنسانية بيننا عندما توليت مشروع تطوير جريدة “المدينة” السعودية، التي شهدت في نفس الفترة تولي جمال مهام مدير تحريرها.

▪افترقنا في العمل في بداية التسعينيات، لكننا لم نفترق شخصيًا قرابة ربع قرن، بعد أن جمعت بيننا روابط أقوى من زمالة المهنة، واتفاق الرؤية في معظم القضايا المشتركة رغم اختلاف زاوية الرؤية أحيانًا. <.. ▪تعلمت من صديقي مهارة الإصغاء الحنون، والقدرة على البحث الدائم عن المشتركات، الذي يصل أحيانًا إلى الجمع بين ما يبدو ظاهريًا أنه متناقضات‼. ▪ربما يفسر هذا تناقض تصنيف البعض لجمال – ولي بدرجة أقل – بين ليبرالي و إسلامي، بين إصلاحي و ثوري، بين رومانسي وواقعي.. ▪والحقيقة أن كل منا ابن شرعي للبيئة السياسية والمجتمعية والفكرية التي خرج منها، ولم يقبل بعوراتها ونقائصها، لكن جمال لم يتمرد عليها بالصورة التي تعزله عنها وتمنع قدرته على التأثير فيها. ▪<.. مرجعية جمال “الإسلامية” لم تمنعه من الإيمان بالحرية، والقبول بالآخر، والتسامح الدائم معه. ومرجعيتي الليبرالية لم تحول دون إيماني بعدم التعارض بين ديني ورؤيتي السياسية، واحترام كل ما هو مقدس. <.. أكثر ما كان يجمعنا هو القدرة على خلق المساحة المشتركة، والدمج بين رومانسية الرؤية وواقعية الفعل في حدود الممكن والمتاح، وأكثر ما كان يفرقنا هو مساحة الممكن والمتاح، بين المعارضة وبين النصح. <.. عشت سنوات أنسج خيوط الغد، خيطًا خيطًا، جامعًا بين ما هو فكري ونظري وبين ما هو شعبي وحركي، وعاش جمال يصنع خيوط الغد، ويرشد من ينسجها للصورة والشكل الأمثل للنسيج. <.. أكثر من ربع قرن لم يتوقف الحوار بيننا، في تقدير مساحات الممكن والمتاح وأولويات اللحظة. <.. ▪عندما خضت الانتخابات الرئاسية، وأسست قبلها حزب الغد، كان جمال يرى أهمية البحث عن صيغة تعايش بين مشروعي ومشروع جمال مبارك كخلاص من الحكم العسكري، وفق وصفه، عبر تشاركية هي السبيل الأقرب للوصول إلى تنافسية مدنية. <.. ▪عندما سُجنت عام 2005 عقابًا على خوض الانتخابات الرئاسية وحلولي ثانيًا في المنافسة مع مبارك، لم يختفِ جمال من المشهد كما فعل معظم الأصدقاء، لم يدّعِ أننا التقينا صدفة في قطار الحياة، بل قفز في القطار الذي كنت أستقله (رغم الخلاف في تقدير اللحظة)، كتب ودافع عني، وظل يفعل لسنوات حتى التقينا ثانيًا في فضاء الحرية. <.. ▪عندما قامت ثورة يناير، وكنت في طليعة الداعين لها والمحرضين عليها، كان جمال في طليعة المروجين والمؤمنين بميلاد جديد لعالم عربي جديد. وأحسب أنه أكثر من تفاعل من الكتاب العرب -إيجابيًا- مع الثورة، وبذل كل الجهد لتطمين أهل القرار في السعودية أن الثورة المصرية لا تمس بلادهم ولا تهدد وجودهم، إلا أن المخاوف كانت أكبر من قدرة جمال على التأثير. <.. كان جمال ناقدًا لتصدر جماعة الإخوان المشهد، ومحذرًا من عدم قدرتها على بناء تحالفات واسعة مع كل قوى الثورة. وفي نفس الوقت، كان ناقدًا لمخاوف واسعة إقليمية ودولية من مجرد وجود الإخوان في المشهد.
عندما وقع انقلاب 3/7/2013، لم يوارب جمال خاشقجي الأبواب – كما فعل البعض في أحسن الأحوال – بل كان موقفه واضحًا قاطعًا في التعاطي مع انقلاب مكتمل الأركان. ورغم منع العديد من مقالاته لهذا السبب، لم يتوقف جمال عن الكتابة والتغريد، والسباحة عكس تيار أقلام النظام في السعودية والإمارات.


لم يكتفِ جمال بالتغريد، بل كان ناصحًا أمينًا للنظام السعودي في عهد الملك عبد الله، وفي بدايات عهد الملك سلمان، الذي كان أكثر المتفائلين به، متصورًا أن السعودية أمام عهد جديد ورجال جُدد ومواقف جديدة.
التقيت بجمال عشرات المرات بين بيروت وإسطنبول وغيرها من العواصم في هذه المرحلة الدقيقة، وكان دائمًا يطلب مني فتح جسور تواصل مباشرة مع الإدارة السعودية الجديدة من خلال رسائل واتصالات شخصية. ونصح أيضًا أن يكتب أحد الكتاب المصريين في جريدة الحياة مقالاً يدعو فيه الملك سلمان لموقف أو مبادرة لحل الأزمة المصرية.
▪وكانت نصيحة جمال أن يكون كاتب هذا المقال د. مصطفى الفقي أو الدكتور وحيد عبد المجيد، وقد حاولت بالفعل التواصل معهما لهذا الغرض، إلا أن الأمر كان أعقد مما تصور جمال.
وعندما بدأ نجم الأمير محمد بن سلمان في الصعود عام 2016/2017، التقاه جمال في إطار دعوة لمناقشة الميزانية الجديدة للسعودية ضمت عددًا قليلًا من الكتاب السعوديين. وبادره جمال بعدة أسئلة عن الموقف الإقليمي والعلاقات بين السعودية والإمارات وقطر – قبل الأزمة السعودية القطرية.
في نهاية اللقاء، سأل الأمير محمد بن سلمان جمال بصيغة استنكارية عن عدة أمور من بينها أسباب تكرار زيارته لإسطنبول وزيارته لي، وسر هذه العلاقة. فكان رد جمال أنه كتب تدوينة على الإنستغرام قال فيها نصًا: “أنا وأيمن نور أصدقاء وزملاء عمل منذ 500 سنة، وثمة توافق فكري بيننا يجعلني أحرص على لقائه دائمًا” ووضع جمال صورة تجمعني به في آخر لقاء بيننا وقتها وكان في مطعم نصرت بإسطنبول.
<.. لم تكن مفاجأة لي أن يُمنع جمال من الكتابة أو حتى من التغريد على تويتر، ولم تمض سوى شهور قليلة وخرج جمال عاقدًا العزم ألا يعود في ظل هذه الأوضاع التي ساءت أكثر بعد خروجه.
<.. كان لنا لقاء مختلف ومحفور في ذاكرتي، وكان في نوفمبر 2017، عندما زارني في بيتي بإسطنبول قادمًا من واشنطن، وقال لي نصًا: “من الحكمة أن تُعمل عقلك مع الأعداء، ومن رحمة الله أن يكون لك أصدقاء يمكن أن تفتح قلبك لهم.”
<.. سألني جمال عن مشاعري وقت انفصالي عن زوجتي الأولى، ولم أفهم ما وراء السؤال إلا بعد أن روى لي ما تعرضت له زوجته السيدة آلاء نصيف من احتجاز وضغوط كي تطلب الطلاق من جمال، وهو ما حدث بالفعل قبل هذا اللقاء بأيام قليلة.
<.. في هذا اللقاء، تبادلنا القليل من الروايات والقليل من الكلمات، والكثير من لحظات الصمت والدموع والألم، الذي يدعم المشترك بيننا.
<..▪ قلت لجمال: “الأيام تمضي سراعًا، والله الذي يختبر صبرنا وصمودنا في المحنة، لن يتخلى عنا أبدًا، وإيماني بهذا لم يتزعزع يومًا، وثقتي بالله لا حدود لها.”
<.. بين آخر لقاء بيننا – 6 سنوات وبضع ساعات – وهي أطول مدة فراق بيني وبين صديقي جمال، (وكأنها 500 عام).
6 سنوات لم ولن أتصور خلالها أننا لن نجلس قريبًا لنتبادل الكلمات – بلا كلمات – فعندما يدق باب منزلي، أتصور أنه هو.
ما زلت أسمع صوته، أرى عينيه، وأستمتع بإصغائه الحنون، أطمئن بإيمانه وثقته في يوم تنتهي فيه الآلام، والدموع والمتاعب، والمخاطر.

تنتهي فيه الغربة، والشعور بالخطر، يقينًا سيأتي يوم قريب، أو بعيد، يخرج فيه الناس من هذا الظلام .. والشعور بمرارة الظلم.
يومًا أرسل لي جمال رسالة في سجني، رسالة ذكرني بها عندما التقينا أثناء ثورة يناير قال فيها:
“حروف كلمة الظلم هي من حروف كلمة الظلام .. فالظلام هو الذي يأتي بالظالمين .. وسينتهي الليل الطويل.”
لا أعرف كيف يمكن أن أذكره بهذه الرسالة الآن .. كل ما أعرفه أنني لم أبكِ كما بكيت جمال، إلا عندما ماتت أمي ورحل أبي.
لن أودع جمال، بعد 6 سنوات، فهو ما زال حيًا في ذاكرتي .. ولو افترقنا 500 عام.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى