مقالات ورأى

قطب العربي يكتب: الصوفية والسياسة.. علاقة ملتبسة ومحاولات خجولة

الفكرة العامة عن الطرق الصوفية أنها بعيدة عن السياسة، وأنها فقط تهتم بالتغذية الروحية للفرد بعيدًا عن مشكلات السياسة وتجاذباتها، وهذه الفكرة صحيحة إلى حد بعيد لكنها ليست حكمًا مطلقًا، إذ إن توسيع دائرة النظر إلى الطرق الصوفية في أقطار مختلفة وعبر أزمنة تاريخية مختلفة أيضًا يكشف صورة مغايرة، ولنا في الجزائر وليبيا والسودان نماذج للصوفية المقاومة للاستعمار، على خلاف نماذج صوفية استكانت للاستعمار والاستبداد في دول أخرى.

ما دفع إلى الحديث عن الصوفية وعلاقتها بالسياسة هي تلك الضجة الإعلامية حول شيخ إحدى الطرق في مصر، وما يواجهه من اتهامات غير أخلاقية، وما تبع قصته من ظهور لطرق صوفية أخرى غريبة الطقوس والملابس، والخطاب، وعلاقة السلطة بتلك الطرق، ورعايتها لها، أو اجتذاب تلك الطرق لنجوم مجتمع كبار من ساسة وقضاة وأدباء وفنانين وإعلاميين، وهو ما دفع بدوره إلى فهم علاقة الطرق الصوفية بالسياسة.

غياب عن ثورة يناير

في مصر غلبت السلبية والقبول بالأوضاع القائمة على معظم الطرق الصوفية قديمًا وحديثًا، لكن هذا لا ينفي أدوارًا مهمة في التاريخ المصري الحديث لرجال التصوف.

وهنا نذكر دور نقيب الأشراف عمر مكرم في مقاومة الفرنسيين في ثورة القاهرة الثانية عام 1800، وتولية محمد علي شؤون البلاد، بعد خلع خورشيد باشا في مايو/أيار عام 1805، كما كان الكثير من رجال ثورة 1919 من أهل التصوف، ربما كانت ثورة 25 يناير 2011 هي الوحيدة التي افتقدت الحضور الصوفي، ذلك أنها جاءت إثر معارك ممتدة بين التيارات السلفية والصوفية، وقد كانت الطرق الصوفية في معظمها تعيش حالة من التناغم التام مع نظام مبارك، باستثناء الطريقة العزمية التي دخلت في مواجهة مع المشيخة الرسمية للطرق الصوفية المدعومة من نظام مبارك، ونجح شيخ الطريقة علاء أبو العزائم في تأسيس اتحاد صوفي مواز، غضت عنه السلطة النظر أيضًا، وكانت مواقف أبو العزائم تبدو أكثر تحررًا واستقلالًا تجاه السلطة وإن لم يكن مناوئًا لها، وشهدت انتخابات البرلمان عام 2010 حضورًا مميزًا لمرشحي الطرق الصوفية على قائمة الحزب الوطني مثل شيخ مشايخ الطرق الصوفية عبد الهادي القصبي، والشيخ علاء أبو العزائم، والشيخ عصام زكى إبراهيم شيخ العشيرة المحمدية، واللواء مشهور الطحاوي ممثلًا للطريقة الشبراوية.

كانت ثورة يناير ربيعًا للإخوان والسلفيين، لكنها كانت خريفًا للطرق الصوفية، فحتى مشاركتهم المميزة في برلمان 2010 جاءت وبالًا عليهم، باعتبارهم جزءًا من نظام مبارك، ناهيك عن أن ذلك البرلمان الذي نالوا عضويته لم يستمر شهرًا، وقد اجتهد بعض مشايخ الطرق الصوفية بعد الثورة لاستدراك الأمر، وعدم ترك الساحة للإخوان والسلفيين، فانحازوا إلى الكتلة الليبرالية واليسارية الرافضة للتعديلات الدستورية في مارس/آذار 2011، وأسسوا بعض الائتلافات الشبابية الصوفية خلال تلك المعركة، كما عمد بعضهم إلى تأسيس أحزاب سياسية تعبّر عنهم، من ذلك حزب التحرير المنبثق من الطريقة العزمية، وحزب النصر المنبثق من الطريقتين الشاذلية والجعفرية، وحاولت الطريقتان الرفاعية والمغازية تأسيس حزبين لكنهما لم يكملا مسعاهما، وترشح عدد من وجوه ومشايخ الطرق الصوفية ضمن قائمة الكتلة المصرية التي رعاها رجل الأعمال ورئيس حزب المصريين الأحرار نجيب ساويرس، وفي المجمل فإن محاولات العمل من خلال أحزاب ظلت محاولات خجولة ولم تصمد طويلًا بسبب افتقاد الخبرة السياسية المطلوبة.

حوار مفقود مع الأحزاب الإسلامية

الحقيقة أن الأحزاب الإسلامية وخاصة حزب الحرية والعدالة كان عليها بذل جهد أكبر لطمأنة مشايخ الطرق الصوفية واجتذابهم ضمن صفوفها، فمؤسس جماعة الإخوان الشيخ حسن البنا كان منتميًا إلى طريقة صوفية (الحصافية)، وقد تأثر بذلك عند وضعه البرامج التربوية لجماعته، ومن ذلك الأوراد والأذكار، والتقشف، والليالي الإيمانية إلخ، وفي حدود علمي كانت هناك محاولات لذلك، وقد رأيت بنفسي الشيخ طارق الرفاعي شيخ الطريقة الرفاعية في زيارة لحزب الحرية والعدالة، وهو الذي ترشح لاحقًا ضمن قائمة الكتلة لكنه تخلى عن ترشحه لصالح الباحث عمرو الشوبكي في ذلك الوقت.

كان لاستمرار الجفوة بين الطرق الصوفية والقوى الإسلامية الأخرى دور كبير في مشاركة الطرق الصوفية في حملات التمرد ضد الرئيس محمد مرسي، وعقب وقوع الانقلاب كانت من أكثر الداعمين له، وتم تكريم شيخ مشايخها عبد الهادي القصبي بوسام الجمهورية للعلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 2014، كما تم اختياره رئيسًا لائتلاف دعم مصر، الذي جمع كل أحزاب الموالاة، وزعيمًا للأغلبية بمجلس النواب المصري.

قد تدفع الحملة الإعلامية الأخيرة شباب الطرق الصوفية أو حتى شيوخها إلى الاشتباك بصورة أكبر مع الشأن السياسي من خلال منصات حزبية متنوعة، وليس فقط الارتباط بحزب بعينه، وربما تدفعهم هذه الحملة إلى تطوير منابر وخطاب إعلامي قادر على الاشتباك والرد بعقلانية، كما قد تدفعهم إلى تعديل بعض السلوكيات والممارسات التي لاقت استهجانًا خلال الأيام الماضية.

صوفية مصر وتركيا وأفغانستان

الحالة الصوفية في مصر تختلف كثيرًا عن شبيهتها في دول أخرى مثل تركيا وأفغانستان مثلًا، ففي الأولى كانت الصوفية من أعمدة الدولة العثمانية منذ بدايتها، وكان لشيوخها كلمة مؤثرة في قرارات الباب العالي، واستمرت الصوفية حامية للحد الأدنى من القيم الإسلامية بعد إلغاء الخلافة وفرض العلمانية على الشعب التركي، بما شمل حصار مظاهر التدين، وحتى هذه اللحظة لا يزال لهذه الطرق دور كبير في الشأن العام، ونتذكر هنا دورها في مواجهة المحاولة الانقلابية منتصف يوليو/تموز 2016، وقد شاهدت ذلك بعيني في اللحظات الأولى للانقلاب حين تحركت جموع المنتمين إلى جماعة محمود أفندي بأزيائهم المعروفة في وقت متأخر من الليل لمواجهة الانقلابيين الذين كانوا قد استولوا على بلدية إسطنبول الكبرى، كما أن نسبة كبيرة من أعضاء وقادة الأحزاب المحافظة (الإسلامية) وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية ينتمون إلى طرق صوفية. أما أفغانستان فإن حركة طالبان الحاكمة هي بالأساس حركة صوفية على خلاف ما يظن الكثيرون، حيث تنتمي إلى المدرسة الديوبندية التي تنتشر في شبه القارة الهندية.

من الواضح أن علاقة الطرق الصوفية بالسياسة ملتبسة، وتختلف من دولة إلى أخرى، ومن فترة زمنية إلى أخرى، لكن الغالب عليها هو اعتزال السياسة، وإن كانت الحكومات في عالمنا العربي توظفها لدعم حكمها، وتبرير سياساتها لجمهورها الواسع.

المصدر: (الجزيرة مباشر)

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى