نهر فساد عميق: قصر ثقافة الكوثر.. من إهمال إلى كوارث
في قلب محافظة سوهاج، يتحول قصر ثقافة الكوثر إلى رمز للتسيب والفساد الإداري، حيث يُستنزف المال العام على موظفين يتقاضون رواتبهم دون أداء مهامهم.
وبالرغم أن المبنى يحمل تاريخًا رياديًا، إلا أنه يغرق في الإهمال، مما يعكس فشلًا إداريًا وانعدامًا للرقابة. يُعتبر قصر ثقافة الكوثر تجسيدًا لقصص الفساد والإهمال في مؤسسات يفترض بها نشر المعرفة والفنون.
داخل جدران هذا المبنى، تكمن قصص الظلم والمعاناة التي تكشف عن واقع مأساوي لا يمكن السكوت عنه. بين الغموض والتجاهل، تتساقط الأقنعة، ليظهر الوجه الحقيقي لمكان كان ينبغي أن يكون منارة ثقافية.
لقد أُهمل القصر حتى أصبح مثالًا صارخًا على الفساد، مما يعكس أزمة حقيقية في إدارة الثقافة في مصر، ويعزز الحاجة الملحة لإصلاحات جذرية تعيد لهذا الصرح دوره الحقيقي في المجتمع.
الوضع الحالي لقصر ثقافة الكوثر: فسادٌ إداري وغيابٌ للوعي الثقافي
قصر ثقافة الكوثر، الذي تم افتتاحه على الورق عام 2000 تقريباً، يواجه واقعًا مريرًا؛ فالموقع يفتقر للموظفين باستثناء أفراد الأمن، بينما يتقاضى أربعة موظفين رواتبهم دون أي عمل حقيقي.
وهذه الأوضاع المزرية جعلت القصر يُستخدم كمخزن لأغراض فرع ثقافة سوهاج، حيث تتكدس فيه الغرف المغلقة، ويغلب على المكان انعدام النظافة وغياب الصيانة.
تؤكد شهادة أحد موظفي الوحدة المحلية، “أ. م.”، أن “هذا القصر مغلق منذ سنوات طويلة ولا يظهر أحد من الموظفين”، مشيرًا إلى مشادة سابقة بين مدير القصر ورئيس الوحدة المحلية بسبب هذا الإغلاق المستمر.
حياة الموظفين وإهمالهم
أكد محمد إبراهيم، موظف في الوحدة المحلية، بأن القصر مغلق منذ سنوات ولم يكن هناك أي نشاط ثقافي. “ما يحدث هنا هو مأساة. كيف نطالب بالثقافة بينما لا يوجد أي اهتمام من المسؤولين؟”.
أحد الموظفين، “ص. ع.” بفرع ثقافة سوهاج، صرح بأن “موظفي قصر ثقافة الكوثر يتقاضون رواتبهم دون وجه حق”. وأشار إلى أن هؤلاء الموظفين حاولوا إقناع المديرة الجديدة، التي عُينت مؤخرًا، بالامتناع عن العمل، قائلين: “نكفي خيرنا شرنا وما حدش يسمع لنا حس”.
وأضاف يوسف سعيد، أحد موظفي الوحدة المحلية، بأن الوضع الحالي لا يمكن السكوت عنه. “يجب أن يتحرك المسؤولون لإنقاذ هذا المكان وتحويله إلى مركز ثقافي حقيقي”.
تجربة المديرة الجديدة
رغم كل تلك العراقيل، كانت المديرة السابقة للقصر، التي تمت إقالتها لاحقًا، تحاول تغيير الوضع الراهن. وأوضح “ن. ا.” موظف بفرع ثقافة سوهاج كيف عملت المديرة السابقة للقصر على تنظيف المكان بالتعاون مع موظفي الأمن: حيث “قامت بجهود شاقة لتنظيف القصر وإعادة تأهيله، لكن المديرة السابقة للقصر وجدت نفسها في مواجهة صعوبات كبيرة”.
فلقد قامت المديرة بالتواصل مع المدارس لتنظيم أنشطة ثقافية، لكن جميع محاولاتها ذهبت سدى بسبب التراخي الإداري والإهمال من قبل المسؤولين.
الوضع البيئي والصحي
يعكس القصر أيضًا بيئة غير صحية، حيث كانت لا توجد مياه في وقت سابق، وكانت قد انقطعت لفترة طويلة، ودورات المياه غير صالحة للاستخدام. تؤكد “س. ر.”، موظفة سابقة في فرع ثقافة سوهاج، أن “المكان مليء بالأتربة والنفايات، ولم يكن هناك أي عامل نظافة”.
كما يُظهر تصريح أحد المعلمين بالمدارس القريبة من القصر بأن المكان مليء بالكهنة والمخاطر، قائلًا: “لقد وجدنا ثعبانًا في المكان، وهو ما يعكس مدى خطورة الوضع”.
أراء المعلمين والطلاب
في حديث مع عدد من المعلمين، أعربوا عن خيبة أملهم من إغلاق القصر، حيث أشار سعيد عبد الله، مدرس بإحدى المدارس المجاورة، إلى أن القصر كان من المفترض أن يكون مركزًا للإبداع. “لكننا لم نعرف بوجوده إلا بعد أن جائتنا مديرة للقصر جديدة طالبة التعاون بين المؤسسات التعليمية وقصر ثقافى الكوثر، لكن سرعان ما اختفت”.
أوضح علي حسن، موظف آخر، أن مديرة القصر كانت تتحرك بجدية ولكنها واجهت تحديات كثيرة. “كنا نتمنى أن يستمر نشاطها، لكن الأمور عادت كما كانت”.
وقالت فاطمة زكريا، مدرسة، إن القصر ليس له أي وجود في مجتمعنا. “افتقدنا أي نشاط ثقافي يمكن أن يشجع الطلاب على المشاركة”.
وتقول “ع. س.”: “نحن بحاجة إلى قصر ثقافة يعمل على خدمة الطلاب وتوفير بيئة تثقيفية مثمرة”. بينما يضيف “م. ع.” معلم آخر: “أصبح القصر مجرد اسم، والأنشطة الثقافية التي كنا نأمل في تنفيذها تحولت إلى سراب”.
وتشير شهادة أحد طلاب المعهد العالي للخدمة الاجتماعية، “ي. أ.”، إلى أنه “لم يسمع عن القصر إلا مؤخرًا، ولم يكن يعلم بوجوده من الأساس”.
وتتوالى الشهادات من المعلمين في المنطقة، حيث تعبر “م. ع.”، معلمة بإحدى المدارس، عن استغرابها من عدم تواصل القصر مع المؤسسات التعليمية، مؤكدة أنها لم تكن تعرف بوجود القصر حتى تعيين المديرة الجديدة.
المأساة الإدارية
تستمر الأزمات في الهيكل الإداري للقصر، حيث تمت الإشارة إلى أن المديرة الجديدة تم إقالتها رغم جهودها، مما يجعلنا نتساءل: لماذا يتم التضحية بالموهوبين والمخلصين في العمل؟! وقد أوضح “ض. ك.”، أحد الموظفين بفرع ثقافة سوهاج، أن “ما يحدث هو نتيجة للفساد والمحسوبية في المؤسسات”.
مبنى بلا موظفين: فقط أمن
من الغريب أن تجد مبنى ثقافيًا تديره الدولة بلا موظفين سوى عناصر الأمن. قصر ثقافة الكوثر، والذي يحتوي على أربع موظفين يتقاضون رواتبهم من الدولة، يبدو وكأنه فقد حيويته منذ سنوات، حيث لم يظهر أحد منهم لأداء عمله.
وبالرغم من أن وجودهم المسجل على القوائم يجعلهم يتقاضون أجورهم الشهرية، فإن الحقيقة البشعة هي أن هؤلاء الموظفين، وكما أكدت مصادر داخل الهيئة، لم يضعوا قدمًا داخل القصر منذ سنوات.
إن هذا التسيب لا يقتصر فقط على الموظفين، بل يطال المبنى ذاته الذي لا يضم أي لافتة تشير إلى هويته الثقافية.
وما كان يمكن أن يكون مركزًا للإبداع والفكر أصبح مجرد مخزن لأغراض مهملة، وغرف مغلقة على مكتبات مغبرة.
قصر ثقافة أم مستودع للكهنة
عندما تتجول داخل قصر ثقافة الكوثر، تفاجئك رؤية مشاهد مثيرة للدهشة. ثلاث غرف مغلقة، بينها غرفة كانت مخصصة لمكتبة الطفل، تحولت إلى مخازن مغلقة على الكهنة.
وسطح المبنى والبدروم لم يكونا استثناءً من هذا الإهمال؛ فهما مستخدمان لتخزين كميات هائلة من الأدوات القديمة والمهملة، ما يشكل خطرًا كبيرًا على حياة العاملين بالموقع.
والأغرب من كل ذلك أن وجود ثعبان تم العثور عليه في المكان لم يحرك ساكنًا لدى المسؤولين، وكأن أرواح الناس لا تعني لهم شيئًا.
ما يزيد الطين بلة هو غياب الحماية المدنية في هذا المبنى المهجور رغم خطورة محتوياته، إضافة إلى انقطاع المياه والكهرباء عن الموقع لعدة شهور، مما يجعل حتى دورات المياه غير صالحة للاستخدام، الأمر الذي أدى إلى تراكم الأوساخ في كل ركن من أركان القصر.
تجربة مديرة القصر: محاولات للإصلاح تواجه الحروب
عندما تولت إحدى الشخصيات إدارة قصر ثقافة الكوثر في عام 2023، بدأت بحملة تنظيف شاملة للمبنى الذي كان مغلقًا لأكثر من 20 عامًا.
ودعت الموظفين إلى العودة إلى العمل وطلبت منهم الانتظام في أداء مهامهم، لكن المفاجأة كانت في ردود أفعالهم.
عندما رفضت مديرة القصر الخضوع لهذا الفساد، واجهت سلسلة من المضايقات والشكاوى الكيدية التي قدمها الموظفون ضدها.
حيث قاموا بتقديم بلاغات وهمية إلى النيابة الإدارية ورفعوا قضايا لا أساس لها، بينما ظلت تحارب وحيدة لإعادة الروح إلى القصر.
موقف المسؤولين: صمت مريب وتجاهل واضح
رغم الشكاوى المتكررة التي رفعتها مديرة القصر إلى مدير عام فرع ثقافة سوهاج ورئيس إقليم وسط الصعيد الثقافي، لم تجد أي استجابة ملموسة. وكلما حاولت التنسيق لإجراء صيانة للمبنى أو دفع فواتير الكهرباء والمياه،بدون جدوي
وهذا التجاهل من المسؤولين زاد الوضع سوءًا، حيث استمرت المخالفات الإدارية في التراكم دون اتخاذ أي إجراء، واستمر الموظفون في تقاضي رواتبهم دون أداء أي عمل.
وعندما تقدمت المديرة بشكوى لرئيس إقليم وسط الصعيد الثقافي، تجاهل طلبها بالكامل، مما أثار العديد من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء هذا التجاهل.
الفساد الثقافي: سلاح ذو حدين
إن هذه القضية ليست فقط أزمة إدارة سيئة أو مبنى مغلق، بل هي جزء من مشكلة أكبر تتمثل في ثقافة الفساد المتفشية داخل العديد من مؤسسات الدولة.
فالفساد الذي يتغلغل في مثل هذه المؤسسات لا يقتل فقط المشاريع الثقافية، بل يساهم في تعزيز ثقافة الإحباط واليأس بين الشباب.
كيف يمكن أن نطالب الأجيال القادمة بالابتكار والإبداع بينما المؤسسات الثقافية التي من المفترض أن تحتضنهم تغرق في الإهمال؟ إن المطالبات بإصلاح جذري يجب أن تتعالى، ويجب أن تبدأ من قصر ثقافة الكوثر.
قصر ثقافة الكوثر: هل يتحول من مستودع للفساد إلى منارة للإبداع
يبدو أن قصر ثقافة الكوثر يحتاج إلى وقفة جادة من جميع الأطراف المعنية. فهل سيبقى هذا المكان مغلقًا إلى الأبد، أم هناك بصيص أمل في تغيير الأوضاع الراهنة؟ استمرار هذه الأوضاع لا يؤثر فقط على الموظفين بل يحرم الأجيال القادمة من ثروات ثقافية لا تقدر بثمن.
يجب أن تكون هناك استجابة سريعة لمطالب إصلاح هذا القصر، ونأمل أن تُسهم الشهادات في تحريك المياه الراكدة نحو الأفضل.
وإن إهمال المؤسسات الثقافية يعكس إهمالًا لمستقبل الثقافة في البلاد، وما لم تتخذ خطوات جدية لإصلاح هذا الوضع، سيظل الحديث عن نهضة ثقافية حلمًا بعيد المنال.
مصر بحاجة إلى ثورة حقيقية تعيد لهذه المؤسسات دورها الأصيل في نشر الوعي والمعرفة، بدلًا من أن تتحول إلى مستودعات للفساد والإهمال. فهل ستتحرك الجهات المعنية لإنقاذ قصر ثقافة الكوثر وإعادته إلى حيويته المفقودة، أم سيظل حبيس الفساد لعقود قادمة؟